بعد ساعات قليلة فقط من بدء المجموعة الانقلابية التحرك في مدينتي أنقرة وإسطنبول، بدأ مؤشر الانقلاب في الارتداد واستلم اردوغان والحكومة زمام المبادرة، ثم حمل اليومان اللاحقان الكثير من التفاصيل التي أنهت التمرد الميداني، بيد أن الرجل ما زال يشدد على الجماهير بضرورة البقاء في الميادين “حماية للديمقراطية”.
لا شك أن الرئيس التركي يهدف إلى أمرين من هذا الطلب، الأول التأكيد على الظهير الشعبي للحكومة والرئاسة في وجه أي محاولة انقلابية أو خطة بديلة لمن دبروا الانقلاب، والثاني – وهو الأهم كما يبدو لي في اللحظة الراهنة – الحفاظ على غطاء شعبي للإجراءات الاستثنائية التي تقوم بها الحكومة على مستوى التوقيفات وعملية التحقيق ككل في ظل قانون الطوارئ.
اليوم، وبعد أسبوعين كاملين على المحاولة الانقلابية “الفاشلة”، يمكن القول إن الاطمئنان على الأوضاع الأمنية وعلى انعدام فرصة الانقلاب مرة أخرى رهن بوجود سردية كاملة ومتماسكة للمحاولة الانقلابية بما يتضمن الخريطة الكاملة للأشخاص والأهداف والتشابكات الداخلية والخارجية، إضافة إلى كامل تفاصيل أحداث تلك الليلة الصعبة وتطوراتها.
بيد أن الكثير من الأسئلة المهمة في سياق المحاولة الانقلابية ما زال حتى اليوم ينتظر الإجابة، وأعتقد أنه مرشح للانتظار مدة إضافية، وأهم هذه الأسئلة:
الأول، ما زال لغز عدم إخبار رئيس جهاز الاستخبارات التركية حاقان فيدان للرئيس ورئيس الوزراء عن الأخبار الأولية التي وصلته عن الانقلاب قبل لقائه بقيادة الجيش مبهماً ودون إجابة واضحة. صحيح أن الرجل – في محاولة للدفاع عن نفسه في الإعلام – سرَّب على لسان رئيس الوزراء السابق داود أوغلو أن المعلومة الأولى التي وصلته كانت عن محاولة لاغتياله (وهي رواية أكثر منطقية من الأولى، ويكاد يؤكدها البيان الأول للجيش)، لكن هذا لا يجيب على كل شيء، ولا يعني أن اردوغان قد اقتنع بهذه السردية.
الثاني، ليس من المفهوم – حتى الآن – تصرف قيادة أركان الجيش إزاء “معلومة” بحجم القيام بانقلاب عسكري في البلاد أو حتى محاولة اغتيال مسؤول كبير فيها، بالاكتفاء بقرار منع الطيران في تلك الليلة (وكأن من نوى الانقلاب أو الاغتيال سيطيع الأوامر) ثم الذهاب بشكل جماعي لحفل زفاف أبناء قيادات عسكرية وكأن شيئاً لم يكن أو كأن المشكل قد حل نهائياً. كما ليس مفهوما لماذا لم تصل هذه المعلومة لقيادات وازنة في الجيش أهمها قائد القوات الجوية، الذي يفترض أن الانقلاب/الاغتيال سيأتي من قواته الجوية بطائرات مقاتلة.
الثالث، ثمة تفاصيل كثيرة متعلقة بليلة المحاولة الانقلابية لم تنكشف خيوطها بعد، ومنها أن مدير مكتب رئيس أركان الجيش اللواء محمد ديشلي الذي حاول إقناع رئيس الأركان بالتوقيع على البيان رقم واحد والوقوف إلى جانب الانقلابيين كان على متن المروحية التي “حررت” رئيس الأركان خلوصي أكار وأعادته لمقر رئاسة الأركان، ثم اعتقل بعدها على ذمة التحقيق. ومنها الدور الذي لعبه القائد السابق للقوات الجوية أكن أوزتورك، والذي لمح البيان الأول للقوات المسلحة التركية حول ليلة الانقلاب إلى “تكليفه” بمهمة ما، إضافة إلى اكتفاء العديد من القيادات بالمشاهدة من بعيد أو الإعلان عن مواقف لفظية وإعلامية دون القيام بتحرك ميداني لإيقاف التمرد في تلك الليلة.
الرابع، ما زال غير معلوم حتى الآن الشخص رقم واحد في العملية الانقلابية ولا تراتبية القيادة بين المجموعة الانقلابية رغم كثافة وعمق المعلومات والتسريبات حول عملية التحقيق. ويذكر أن البيان الذي أعلن على شاشة القناة التلفزية الرسمية (TRT) لم يحمل أي أسماء واضحة غير اسم المجموعة “هيئة السلم الوطني”، ربما رهاناً على تأييد بعض القيادات الوازنة التي كانت ترقب اتجاه الأحداث.
الخامس، ليس واضحاً حتى الآن للسلطات التركية الخارطة الكاملة لأتباع التنظيم الموازي في المؤسسة العسكرية تحديداً، ولذلك فلا يمكن التأكد من إقصائهم تماماً عن مناصبها الرفيعة، بسبب ما يلتزمون به من سرية تامة وتقية عميقة، وبالتالي فقد يكون أكثر المعارضين للانقلاب اليوم منهم – نظرياً – بانتظار فرصة قادمة، كما قد يكون الكثير ممن رُفـِّعوا في اجتماع مجلس الشورى العسكري الأعلى أمس من التنظيم الموازي غير المعروفين أيضاً.
وفي هذا الإطار من المفيد الإشارة لاعترافات المساعد العسكري (الياور) لرئيس هيئة أركان الجيش والذي قال إن %70 ممن دخلوا القوات المسلحة التركية منذ تسعينات القرن الماضي هم من الجماعة. كما من المهم التذكير بأن التوقيفات على ذمة التحقيق شملت أقرب المقربين للرئيس اردوغان وهو مساعده العسكري والدائرة الضيقة حول رئيس الأركان وهم كل من مساعده العسكري ومدير مكتبه ومستشاره الأول وحرسه الشخصي وحرس منزله.!!
السادس، بعد التصريحات عالية السقف اتجاه الولايات المتحدة في اليومين الأولين من المحاولة الانقلابية، والحديث عن دور قاعدة “إنجيرليك” العسكرية تحديداً تلك الليلة بما في ذلك انطلاق طائرات منها لتزويد مقاتلات الانقلابيين بالوقود واستضافتها عدة اجتماعات بين قائد القوات التركية في القاعدة (أوقف على ذمة التحقيق) ومسؤولين أمريكيين، غابت اللهجة التركية المتهمة لواشنطن بالاضطلاع في الانقلاب، اللهم إلا من بعض التقارير الإعلامية غير الموثقة، وحل محلها الطلب بتسليم كولن حصراً، وهو ما يغلق الباب على أي إمكانية لمعرفة الدور الأمريكي الحقيقي ليلة الخامس عشر من تموز/يوليو، لكنه يزيد الشكوك حول تورطها ويطرح أسئلة أخرى – بلا إجابات – عن خططها المستقبلية.
من جهة أخرى، ما زالت واشنطن تتمنع وتماطل في مسألة تسليم كولن، بل عبر بعض المسؤولين الأتراك عن خشيتهم من هربه (الأصح تهريب واشنطن له) إلى بلد آخر ليس لتركيا معه اتفاقية تسليم المتهمين، وهو ما يعني أن “ورقته لم تحرق نهائياً بعد”.!!
السابع، لا يمكن الجزم بسيطرة القيادة السياسية على المؤسسة العسكرية تماماً، بل لا ينبغي توقع ذلك في ظل افتقاد العدالة والتنمية للكوادر المناسبة، وبالتالي فعملية إعادة الهيكلة والفصل من المؤسسة العسكرية أدت إلى استبدال خصم بآخر فقط، بحيث يتم إبعاد المشتبه بانضمامهم للتنظيم الموازي وتمكين التيار الكمالي التقليدي في المؤسسة العسكرية، الذي قام بأربعة انقلابات سابقة واتهم بالتخطيط لغيرها (أرغنكون والمطرقة) قبل أن يُبرأ منها بادعاء تلفيق التهم له من قبل التنظيم الموازي. وبالتالي فجزء غير يسير من دعم المعارضة التركية وأوساط من الجيش لإجراءات الحكومة هو من باب إزاحة منافسهم الأقوى في المؤسسة العسكرية ومختلف مؤسسات الدولة وليس بالضرورة موقفاً أخلاقياً، فهو إذن تقوية لموقفهم هم داخل الجيش أكثر من كونه “تطهيراً” للمؤسسة تماماً من الأفكار الانقلابية.
هذه الأسئلة المهمة وغيرها الكثير ما زالت مطروحة دون إجابات مقنعة أو نهائية أو مريحة، وليس المقصود من طرحها اليوم الإغراق في نظرية المؤامرة ولا إشاعة الذعر والهلع، بل الإشارة إلى أمور محددة بعينها. أولها أن الانقلاب أخفق لكنه لم ينته بالضرورة تماماً، وثانيها أن غلق باب الإنقلابات التقليدية لا يعني سهولة منع الاغتيالات والتفجيرات والفوضى، وثالثها أن التعويل او الرهان على كولن/التنظيم الموازي ما زال قائماً كما يبدو وهذا يدفع للحذر من خطط مستقبلية مختلفة، ورابعها أن كل إجراءات الحكومة إزاء المؤسسة العسكرية لا تعني السيطرة عليها ولا وأد فكرة الانقلاب بين قياداتها (من التيارين الموازي والكمالي) بالضرورة، وأن طريق المأسسة وترسيخ الحالة الديمقراطية وسيادة المنتخبين على المعيّنين ما زالت طويلة جداً ودونها الكثير من العقبات والتحديات والمخاطر والمفاجآت، وبالتالي فليلة الخامس عشر من تموز/يوليو لم تكن أبداً المحطة الأخيرة في مسيرة “تمكين” القيادة السياسية التركية من قيادة الدولة بل مجرد محطة أخرى على طريق التجربة، على أهميتها.