بدأت الثورة السورية في آذار/مارس 2011 لأسباب موضوعية – سورية كثيرة ومحقة، تتعلق بالأوضاع الاقتصادية والحالة الأمنية والدكتاتورية والمظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفساد والمحسوبية وغيرها، واستفادت من زخم الثورات التي سبقتها في العالم العربي والتي أعطتها أملاً بإمكانية التغيير.
وقد سارت الثورة السورية على درب سابقاتها بالتظاهر السلمي والعمل الشعبي الجماهيري البحت لشهور عديدة، قبل أن تتحول لثورة شبه عسكرية ثم إلى التسليح الكامل وغياب البعد الشعبي – السلمي إلا ما ندر، تحت ضغط التعامل الأمني الفظ للنظام والذي كان – برأيي – خطة مقصودة منه لتسليح الثورة لإثبات وجهة نظره بأنها ليست حركة جماهيرية معارضة لسياساته بل حركة مسلحة متشددة تحصل على دعم خارجي.
في ذلك الوقت رأى البعض أن عسكرة الثورة مزلق خطير قد يسير بها إلى غير ما تريده من أهداف (وكان كاتب هذه السطور منهم) رغم توافر مسوغات حمل السلاح وأولها الدفاع عن النفس إذ لم يكن السؤال حول المشروعية بل حول المآلات، مثل استجلاب التدخل الخارجي والارتهان للدعم الإقليمي والدولي والتحول لحرب بالوكالة وتدويل الصراع بحيث يفقد السوري القدرة على تقرير مصيره ومستقبل بلاده. بينما رأى البعض الآخر أنها – أي العسكرة – نتاج طبيعي للسياسات الأمنية وتطور تاريخي عرفته معظم الثورات السابقة حين ووجهت المطالب الشعبية السلمية بالتجاهل والعنف. بيد أن هذا التقييم لم يعد مجدياً الآن، فعجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء، فضلاً عن أن هذا النقاش لم يعد ذا فائدة عملية كبيرة اليوم.
مع مرور الوقت وإصرار النظام السوري على الحل الأمني ومواجهة المظاهرات بالقوة، بدأ بعض الجنود والضباط بالعصيان وأعلن عدد منهم “الانشقاق” عن الجيش السوري، ومع تعدد حالات الانشقاق أعلن عن تأسيس “الجيش السوري الحر” بقيادة العقيد رياض الأسعد “لحماية المتظاهرين”. كان الجيش الحر فرصة جيدة لتوحيد العناصر المنشقة عن الجيش النظامي، وتحذير النظام مما هو قادم، بل وللرهان عليه ليصبح جيش سوريا المستقبلي في حال تم التعامل معه بالشكل المطلوب. بيد أن التجاذبات الداخلية والدعم الخارجي أديا إلى تشتت المشهد السوري المعارض، فتحول السوري الحر إلى مجرد عنوان يضم تحته عدداً كبيراً جداً من المجموعات التي لا تجمعها رؤية موحدة أو خطة مشتركة، كما بقي على هامش التيارات “الإسلامية” المسلحة الأقوى حضوراً ودعماً وإنجازات، بل وتعرض للكثير من التشويه والتشويش والتقييمات الظالمة وطنياً وأخلاقياً و”دينياً”.
بعد سنوات من الشرارة الأولى، تحول الحدث تدريجياً من ثورة شعب ضد نظام ظالم، إلى عصيان مسلح بدعم خارجي، إلى نزاع إقليمي بخلفية مذهبية أحياناً، إلى صراع دولي بأدوات محلية وإقليمية. حصل ذلك على مستوى الوعي والانطباعات والخطاب الدولي وإن بقيت مسوغات الثورة قائمة وشاهدة على مظلومية الشعب السوري وأحقيته في صياغة مستقبله واختيار حكامه، بيد أن الطاولة التي تقرر مستقبل سوريا يجلش إليها الكثيرون، كل الأطراف الإقليمية والدولية القريبة والبعيدة تقريباً، باستثناء الشعب السوري.
تدخلت إيران وميليشياتها في سوريا وحاربت وتحارب على أرضها، ثم لحقتها روسيا والولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، وحتى الصين المعروفة بحرصها على النفوذ الاقتصادي حصراً وضعت سكينها للتأكيد على حقها بجزء من “الكعكة”، أما الدول الإقليمية الداعمة – من بعيد – للمعارضة السورية فتدخلت ميدانياً مؤخراً من البوابة التركية.
بدأت تركيا عملية درع الفرات في الرابع والعشرين من آب/أغسطس الفائت، في ظل سياقات داخلية وخارجية كثيرة، بهدف إبعاد تنظيم الدولة – داعش عن حدودها ومنع تقدم الفصائل الكردية في الشمال السوري غرب الفرات للحيلولة دون تواصلها الجغرافي وإنشاء “ممر كردي” على حدودها الجنوبية.
بعد رفضها لفترة طويلة الانخراط في جهود مكافحة داعش باعتبار أن معركتها مع النظام، شاركت فصائل سورية معارضة تحت مسمى الجيش السوري الحر في العملية وما زالت، وهو أحد أهداف العملية التركية فيما يبدو لي، أي تقديم بديل محلي عن الفصائل الكردية المسلحة لواشنطن لإقناعها بوقف/خفض الدعم المقدم منها لهم. بهذا المعنى، فقد أصبح الجيش الحر – قصد أم لم يقصد، انتبه أم غفل – جزءاً من الخطة التركية لصد المشروع الكردي في شمال سوريا ومرشحاً ليكون جزءاً من المشروع الأمريكي – الغربي لمواجهة داعش.
صحيح أن تركيا ليست مجرد دولة إقليمية/جارة بل دولة داعمة للمعارضة السورية وبالتالي فتحركها العسكري في سوريا يحسب للمعارضة أيضاً بدرجة أو بأخرى سيما وأنه أتى بعد فك الحصار عن حلب، وصحيح أنه يأتي بعد أكثر من خمس سنوات من الأزمة السورية، وصحيح أن السياسة الخارجية التركية ليست عدوانية أو تنوي الاحتلال أو البقاء في سوريا (على الأقل وفق تصريحات قادتها)، وصحيح أن التدخل التركي أتى بعد كل تدخلات الدول الأخرى سابقة الذكر والتي جعلت الكثير من المراقبين ومن المعارضة السورية يعتبرونه متأخراً بعد أن طالبوا به مراراً، لكنه في نهاية المطاف تدخل عسكري على الأراضي السورية، وهو أمر ينبغي أن يكون مرفوضاً من الناحية المبدئية بغض النظر عن سياقاته السياسية والعسكرية ومسوغاته الداخلية والخارجية (سيما وأنه يأتي بعد تقارب واشنطن مع موسكو وفي ظل موازنات إقليمية ودولية كثيرة) وبغض النظر عن حسابات المعارضة الحريصة على عدم إغضاب تركيا بل واعتبار المعركة معركتها بسبب الأضرار التي تسببت بها كل من داعش والميليشيات الكردية بالقضية السورية حتى الآن، وربما يكون لها الحق في ذلك.
بيد أن ما أشير إليه أبعد من المواقف الأخلاقية – المبدئية التي يبدو أنها تاهت في زحمة المتغيرات المتسارعة وتحت ضغط الظروف والأوضاع الصعبة، بل يتعلق باستراتيجية الجيش الحر المستقبلية، إذا ما اعتمدنا التسمية بعد الخطوة الإيجابية بالتنسيق الميداني الواضح مؤخراً.
فمنذ سنوات والرؤية الخارجية وخصوصاً الغربية هي إبقاء الصراع وإدامة أمد الأزمة بتغليب أحد الطرفين النظام أو المعارضة بالتتالي لأهداف عدة، وهو ما أعلنته هيلاري كلينتون حين كانت وزيرة للخارجية بقولها إن واشنطن حريصة على “التوازن” في سوريا. وبالتالي فقد فرغ أكثر من تقدم/معركة من مضمونه واتضح أنه متغير تكتيتكي بسيط في ظل الصورة الكبيرة، ومن أهم أسباب ذلك ارتهان المعارضة السورية لشروط وظروف الدعم الخارجي.
اليوم، ثمة مشاريع كثيرة في الأفق أمام الجيش السوري الحر المنخرط في عملية درع الفرات. ثمة مشروع تركي هدفه الأبرز منع الدويلة الكردية وليس معروفاً حتى الآن هل سيكتفي بهذا الهدف ويمتنع عن أي خطوات أخرى، أم تشجعه النتائج الحالية على الاستمرار وتوسيع الخطة نحو مراحل مستقبلية قد تشمل جبهة حلب والمنطقة الآمنة المصغرة ودعم المعارضة في وجه النظام وغيرها من الأهداف التي ستصب بشكل مباشر في مصلحة المعارضة السورية، خصوصاً في ظل تصريحات تركية متضاربة بهذا الشأن ما بين القبول بالأسد في الفترة الانتقالية وتأكيد معرفته بالعملية التركية عبر الروس بل وتشجيعه على إدراك “الخطر الكردي” وبين إشارة الناطق باسم الرئاسة التركية إلى قدرات الجيش الحر الذي يستطيع – إن دعم – مواجهة داعش والنظام معاً.
وهناك المشروع الأمريكي القائم على توظيف كافة الجهود المحلية والإقليمية والدولية لمواجهة تنظيم الدولة – داعش حصراً بعيداً عن مواجهة النظام، الذي تعاونت معه بعض الأطراف في مراحل سابقة وحالياً تحت عنوان محاربة الإرهاب. وهناك المشاريع الإقليمية التي ساهمت في تشتيت المعارضة السورية وتعدد فصائلها ومشاريعها. وهناك مشاريع التقسيم التي لم تـُلغ يوماً من حسابات مختلف الفرقاء، بل ويمكن أن تخدمها بعضُ التحركات الميدانية التي يفترض أن تحول دونها إن لم يُحسن تخطيطها وتنفيذها وفق رؤية استراتيجية واضحة. وهناك المشروع القديم – المتجدد بإدامة الصراع ضغطاً على طرفيه المحليين النظام والمعارضة للوصول إلى نقطة القبول بالحل السياسي الخارجي الذي يقوم على المحاصصة واقتسام الكعكة السورية والحفاظ على مصالح مختلف الأطراف خصوصاً موسكو وواشنطن.
بينما يفترض بالجيش السوري الحر كتوجه معارض خرج من رحم الشعب السوري في ظل ثورة على نظام ظالم أن يحافظ على مشروعه الخاص به، رغم أنه لا مانع من قبول الدعم (غير المشروط وغير المتحكم) والمناورة على تخوم بعض المشاريع الأخرى والعب في المساحات الرمادية بين مختلف الأطراف سيما إن كانت تخدم في نهاية المطاف مشروعه واستراتيجيته. أما ضياع البوصلة والسير في ركب الداعمين والأصدقاء والحلفاء المفترضين فليس من مهام حركات التحرر الوطنية. لقد ذكرتُ في أحد المؤتمرات بخصوص سوريا أن مصطلحات مثل “أصدقاء الشعب السوري” و”حلفاء الثورة السورية” ليست دقيقة، بل الأدق هو وجود أطراف تتقاطع رؤيتها ومصالحها ومواقفها مع المعارضة السورية، فيمكن و/أو ينبغي التعاون معها في السياقات التي تخدم الشعب السوري وثورته وحقوقه، أما الاقتناع بوجود الأحلاف والمحاور غير الموجودة على أرض الواقع – في ظل المتغيرات المتسارعة التي نعايشها – فيرفع سقوف التوقعات ويؤدي إلى التيه ويتسبب بخيبات الأمل.
إن المشروع الذي يجب صياغته والحفاظ عليه والعمل على تحقيقه ينبغي أن سورياً وطنياً في المقام الأول، ومتناغماً مع مطالب الشعب وحقوقه (وليس بالضرورة شعاراته)، وعدم الاكتفاء بالمحاور القائمة والمعارك التكتيكية التي قد تخدم سيناريوهات التقسيم من حيث تريد منعها، إن اكتفت الأطراف المختلفة بحماية حدود السيطرة الجغرافية والوضع القائم بعد تأمين مصالحها.
وهنا تبرز محطات مرحلية ينبغي الإسراع في إنجازها، مثل توحيد الجهود الميدانية وفق رؤية واضحة وخطة موحدة، وصياغة مشروع سياسي واضح الأهداف والمطالب والمراحل إلى جانب العمل العسكري، لتحقيق الأهداف الاستراتيجية المتمثلة بمواجهة النظام والحفاظ على وحدة الأراضي السورية وصياغة أفضل لسوريا وشعبها، الذي يفترض أن يكون الهدف الاستراتيجي الأسمى والأهم الذي تحاكـَم الأهداف المرحلية والوسيطة الأخرى فقط وفق مدى إسهامها في تحقيقه.