أعاد خروج البروفيسور أحمد داود أوغلو من المشهد السياسي في تركيا إحياء النقاش القديم – المستجد حول التحديات التي تحيط بالتجربة التركية. إذ ليس من قبيل نظرية المؤامرة الحديث عن استهداف تركيا و/أو إحاطتها بمخاطر جمة داخلياً وخارجياً، وليس من قبيل المبالغة أنها مرت بتحديات وأزمات كبيرة على مدى سنواتها السابقة منها على سبيل المثال لا الحصر قضية حظر حزب العدالة والتنمية وأحداث “جزي بارك” وادعاءات الفساد أو ما سمي بالانقلاب القضائي وغيرها، فضلاً عن الإقليم اللاهب المحيط بها.
ورغم ذلك، أدعي أن التحديات الحقيقية/الاستراتيجية مختلفة نوعاً ما عن كل هذه المحطات على خطورتها وحساسيتها، فالتحدي الحقيقي هو ما يمكن أن يمس أصل التجربة وجوهرها ورؤيتها وأهدافها.
على مدى السنوات الماضية، وحين كان العدالة والتنمية في أوج نجاحه، كنت أركز في محاضراتي على ما أسميه التحديات الاستراتيجية أمامه على المدى البعيد، وأهمها وأخطرها ثلاثة:
أولاً، القضية الكردية، التي تشكل ملف الاستنزاف الأول والأكبر لتركيا منذ عشرات السنين وتعتبر باباً للضغوط والتدخلات الخارجية. بعد سنين خاطر فيها العدالة والتنمية بعملية تسوية سياسية داخلية للملف الكردي، تبدو الحركة السياسية الكردية في تركيا اليوم بشقيها السياسي (حزب الشعوب الديمقراطي) والعسكري (حزب العمال الكردستاني) على أبواب مرحلة جديدة عنوانها التدويل والحلول الانفصالية استفادة من المتغيرات الإقليمية وخاصة الأزمة السورية.
ثانياً، العلاقات المدنية – العسكرية، حيث كان أحد أهم إنجازات حكومات العدالة والتنمية تقليم أظافر المؤسسة العسكرية وإخراجها من المعادلة السياسية في البلاد، وقد ساعدها على ذلك سير عملية التسوية الداخلية مع الأكراد بشكل جيد. بطبيعة الحال، لا أقول بوشوك حدوث انقلاب عسكري لا قدر الله، لكن عودة التصعيد من قبل الكردستاني وهجمات تنظيم الدولة – داعش والتطورات على الجبهة السورية والأزمة مع روسيا وغيرها من المتغيرات زادت من ثقل المؤسسة العسكرية ودرجة إسهامها في القرار السياسي بتعاظم الدور الذي تلعبه وأهميتها في الملفات آنفة الذكر، وهو ما قد يشكل خطراً على المدى البعيد.
ثالثاً، وحدة الصف الداخلي واستمرار التجربة على مستوى القيادة، وهو التحدي الأبرز والأخطر والأكثر حساسية من كل ما سبق لأنه متعلق بأصل التجربة وجوهرها واستمراريتها. إن المرحلة الانتقالية من القيادة التاريخية المؤسِّسة إلى الأجيال القيادية التالية تشكل أكبر التحديات أمام التيارات السياسية والحركات الاجتماعية، وحزب العدالة والتنمية ليس استثناء في ذلك. التاريخ التركي الحديث أيضاً شهد أفول نجم حزبين كبيرين بعد انتقال قائديهما إلى القصر الرئاسي، وهما حزبا الوطن الأم بقيادة تورغوت أوزال والطريق القويم بزعامة سليمان دميريل، بسبب الفراغ الذي تركاه خلفهما وخلافاتهما مع من “استأمناهما” على قيادة الحزب بعدها؟!!
كان ثمة خياران أمام العدالة والتنمية وزعيمه اردوغان وهو على أهبة الرحيل عنه نحو رئاسة الجمهورية، رئيس قوي يوحد صفه ويقوده مع احتمال عدم التوافق التام مع اردوغان، أو رئيس ضعيف نسبياً لا يخرج عن خط الأخير لكن مع خطورة عدم نجاحه في قيادة الحزب وتوحيده تحت قيادته، فرجحت كفة الخيار الأول ووقع الاختيار على “الأستاذ” صاحب “العمق الاستراتيجي”.
إن نظرة سريعة على أقل من سنتين من رئاسة البروفيسور للحزب الحاكم والحكومة لا يمكن أن تظهره فاشلاً، بل على العكس يبدو الرجل وقد قاد الحزب لأغلبية برلمانية غير مسبوقة – بعد تعثر حزيران/يونيو 2015 – وحافظ على نمو الاقتصاد رغم أحداث المنطقة والأزمة العالمية وما زالت استطلاعات الرأي تعطي للعدالة والتنمية بقيادته نسبة تأييد أعلى حتى من الانتخابات الأخيرة. فإذا كان الرجل قد نجح وأبدى تحولاً سريعاً من الأكاديمي إلى السياسي، فأين تكمن المشكلة إذن؟
المشكلة في الحقيقة ذات بعدين، إحداهما بنيوية – دستورية لها علاقة بتقاطع الصلاحيات بين الرئيس ورئيس الوزراء وفق الدستور والنظام السياسي الهجين بين البرلماني والرئاسي فعلياً، والثانية سياسية – تنافسية مرتبطة بقوة شخصية الرجلين، القائد صاحب الكاريزما والمفكر الواثق بنفسه، فكانت النتيجة الخلاف حول آلية اتخاذ القرار ومرجعيته، وليس حول السياسات والرؤى والأفكار.
وعليه، فالمعضلة أكبر من مجرد خسارة قامة كبيرة مثل داود أوغلو الذي لا تملك تركيا بديلاً عن نظرياته ورؤاه رغم كل ما قيل في نقدها وتقييمها، والمعضلة إذن مستدامة حتى بعد رحيله وحتى مع أكثر السياسيين تناغماً مع الرئيس، في ظل استمرار الدستور الحالي وطريقة إدارة اردوغان للأمور. والحل إذن – بالتبعية والتسلسل المنطقي – ذو بعدين: تسريع إقرار الدستور الجديد وتثبيت نظام سياسي للبلاد تنتفي فيه التقاطعات والتواجهات وينتقل فيه النظام من “رئاسي فعلياً” كأمر واقع إلى رئاسي رسمي أو برلماني محض، وبلورة رؤية لقيادة العدالة والتنمية لا تغفل زعامة اردوغان ورؤيته وشعبيته الطاغية ولكن أيضاً لا تلغي دور القيادات الأخرى تماماً فلا تؤدي إلى التفرد بالقرار تحت سطوة الغيرة “الأبوية” على المصلحة.
لقد غابت – أو غيبت – عن قيادة العدالة والتنمية أسماء كبيرة من المؤسسين الكبار والشخصيات ذات الثقل النوعي في الحزب، مثل الرئيس السابق عبدالله غل ونائب رئيس الحزب والحكومة بولند أرينتش الذَيْنِ مثلا مع اردوغان وعبداللطيف شنار الرباعي المؤسِّس للحزب، فضلاً عن عبقري الاقتصاد التركي علي باباجان ونائب رئيس الحزب حسين تشيليك، وصولاً الآن إلى مهندس السياسة الخارجية أحمد داود أوغلو، وبينهم العديد من الأسماء التي لا يمكن أبداً الجزم بأنها – كلها – فاقدة للرؤية والمصداقية والثقة التي يتمتع بها اردوغان.
إن المعضلة الحالية تتمثل في أن جيل المؤسسين والشخصيات الوازنة القادرة على اجتراح الرؤى والاسرتايتيجيات كاد يختفي وبقي اردوغان في الواجهة والمواجهة وحيداًً، وهذا مكمن خطر شديد على مجمل التجربة، أولاً على مستوى الصورة والنموذج الذي مثله العدالة والتنمية كعمل جماعي ديمقراطي ناجح، وثانياً على مستوى أسلوب الإدارة المركزي الذي يحتاج لفوائد الثراء والتنوع القيادي وإلى ضوابط ومحددات ورفاق درب تمنع التحول إلى سلطوية سلبية، وثالثاً وهو الأهم على المستوى الاستراتيجي لقيادة الحزب والحكومة والدولة بعد اردوغان حيث لا تبشر التطورات الأخيرة بسلامة عملية صناعة القيادات البديلة والمستقبلية التي يمكن لها أن تكمل المسيرة، وهو الأمر الذي يحتاج لأن يعطيه اردوغان قبل غيره الأولوية والأهمية اللتين يستحقهما باعتبار أن ما على المحك هو مستقبل الحزب والتجربة والدولة.