في الخامس من أيار/مايو الحالي خرج رئيس الوزراء ورئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا أحمد داود أوغلو في مؤتمر صحافي ليعلن عن عقد هيئة عمومية استثنائية للحزب وعدم ترشحه فيها، الأمر الذي يعني خروجه من المشهد السياسي الحالي في تركيا من خلال تخليه طواعية – أو هكذا بدا – عن منصبيه في رئاسة الحزب الحاكم والحكومة.
الخلاف مع اردوغان
كتب الكثير وقيل أكثر حول أسباب هذا التنحي قبل إعلانه وبعده، لكن مهندس السياسة الخارجية التركية لم يترك كثير مساحة للتكهنات حين أعلن في المؤتمر الصحافي نفسه عن افتراق الطريق بينه وبين أعضاء الهيئة المركزية للإدارة واتخاذ القرار (MKYK) الخمسين في الحزب، وأنه فضل التضحية بالرئيس على أن يغير الهيئة حتى لا يتسبب ببلبلة داخل الحزب، وهو ما عبر عنه باستخدام القول العربي المأثور والمستعمل في الموروث العثماني “الرفيق قبل الطريق”.
ولأن الهيئة في معظمها معروفة بالولاء للرئيس اردوغان فقد تأكد بدرجة أو بأخرى أن السبب الرئيس خلف قرار داود أوغلو هو الخلاف مع الأخير، سيما وأن الأزمة التي قصمت ظهر العلاقة كانت قرار الهيئة المركزية – بالترتيب دون علمه – بسحب صلاحية تعيين رؤساء فروع الحزب منه وإعادتها للهيئة ذاتها بعد أن كانت بيد رئيس الحزب منذ 2002.
ولئن أمكن إعادة الخلاف بين الرجلين إلى سببين رئيسين، أحدهما متعلق بتعارض الصلاحيات بسبب الدستور المعمول به منذ 1982 والثاني مرتبط بقوة شخصية الطرفين بما يعزز مقاربة الصراع على النفوذ وآلية اتخاذ القرار في الحزب والحكومة ومرجعيته، إلا أن نظرية المؤامرة وأحاديث محاولة انقلاب “الأستاذ” على “الرئيس” لم تعدم من يصدقها بل ويروجها، وفي مقدمتهم مدونة “ملف البجعة”.
ما هو “ملف البجعة”؟
في الأول من أيار/مايو الجاري، أي قبل أربعة أيام فقط من تنحي الرجل، وبعد يومين فقط من الاجتماع الأشهر للهيئة المركزية للحزب، ظهرت على الشبكة العنكبوتية مدونة مجهولة المصدر والتبعية تسمى “ملف البجعة” (pelikan dosyası) ظلت حديث الدوائر السياسية والإعلامية في تركيا حتى إعلان داود أوغلو عن قراره.
لم تحمل هذه المدونة اسماً ولم تشر إلى مصدرها أو مرجعيتها إلا من خلال مقدمتها التي طلبت من القراء اعتبارها “صرخة” من “الذين يفـْـدون الرئيس بأرواحهم”، والذين جاء دورهم في الحديث “بعد أن تحدث أنصار داود أوغلو كثيراً” وفق ما كتب.
تدور الفكرة الرئيسة في المدونة حول محاولة إثبات أن رئيس الوزراء داود أوغلو – الذي تشير إليه باسم “الخوجا” أي الأستاذ – قد قرر الخروج عن خط الرئيس اردوغان و”خيانته” والانقلاب عليه، وتحاول التدليل على ذلك من خلال سرد عدة أحداث وأحاديث دارت في العلن أو وراء الكواليس أو على الهاتف.
تورد المدونة أن أحمد داود أوغلو لم يحصل على أعلى أصوات الترشيح خلال التصويت الداخلي في العدالة والتنمية على اسم من سيخلف اردوغان في رئاسة الحزب بل حل ثالثاً، لكن الأخير اختاره للمنصب بعد أن أخذ عليه تعهداً بتأييد النظام الرئاسي والدفاع عنه في وجه “محاولات الغرب الانقلاب عليه”. وتقرر المدونة – ملف البجعة – أن داود أوغلو لم يف بما وعد به بتأثير من مستشاريه، الذين رأوا أن “الخوجا” أفضل من “الرئيس” اردوغان الذي تكمن المشكلة في شخصه، وأن رحيله سوف يحسن العلاقات مع الغرب ويحل مشاكل تركيا المختلفة، ولذلك فقد اتخذوا معاً قرار الانقلاب عليه.
ويشير الملف إلى أن داود أوغلو أراد “إسقاط” اردوغان عبر مقاضاة الوزراء الأربعة المتهمين بالفساد أمام المحكمة العليا باعتبار أن الاتهامات كانت ستصل للأخير، وحين فشل في ذلك عزم على “إضعافه” من خلال عدة إجراءات في مقدمتها إقناع رئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان بالاستقالة من منصبه للترشح للبرلمان دون علم الرئيس، ثم عبر الإصرار على تشكيل ائتلاف حكومي بعد انتخابات حزيران/يونيو 2015 بهدف “صد الباب أمام إقرار النظام الرئاسي في البلاد”.
ومن الاتهامات التي حاولت المدونة إثباتها على الرجل عدم الرجوع لاردوغان في الكثير من القرارات، والاختلاف معه في كثير من القضايا، والتعاون مع خصوم الأخير ومنهم التنظيم الموازي والإعلام المناوئ له وحزب العمال الكردستاني، ومحاولة تقديم الكثير من إنجازات اردوغان مثل عملية التسوية مع الأكراد واتفاق تحرير تأشيرة شينغن مع الاتحاد الأوروبي على أنها نجاحات لداود أوغلو، فضلاً عن محاولته إنشاء وسائل إعلام تابعة له وهي المحاولة التي اعتبرتها المدونة “خيانة” لأنها “لا تختلف عن إنشاء حزب جديد تابع له”.
قراءة في المضمون والدلالات
في تقييم مضمون وأسلوب “ملف البجعة”، يجدر القول أولاً إن المدونة لا تتضمن أي “وثائق” موثقة بل لعل جزءاً منها لا يرقى لدرجة “المعلومة” بل هي ادعاءات و/أو تسريبات و/أو أخبار قد لا يكون من المتاح التأكد من صحتها، وهو أمر جوهري يطعن في مصداقيتها.
الملحوظة الثانية في ما يتعلق بالمدونة أنها بعيدة عن الأسلوب العلمي بل والصحافي المهني، بل تبدو أقرب إلى الصحافة الصفراء الباحثة عن الإثارة، من خلال “تجميعها” لأخبار وأحداث صحيحة في معظمها إلى جانب أحداث حصلت مع تفسيرها بتحيز، وأحداث مفترضة و/أو مفتراة، فضلاً عن سرد مضمون لقاءات واتصالات سرية، ثم لتضع كل ذلك في قالب يوحي بسردية متماسكة توصل القارئ إلى المعنى الذي تريده.
ومن المآخذ العريضة على المدونة في هذا الإطار ادعاؤها لعدد من التفاصيل الكاذبة أو غير الدقيقة، مثل ادعاؤها بأن داود أوغلو لم يعترض على مشاركة نواب حزب الشعوب الديمقراطي في جنائز وبيوت عزاء انتحاريي العمال الكردستاني، أو أنه سكت على كل محاولات النيل من اردوغان والتطاول عليه، أو أنه رفض الدعوة للنظام الرئاسي في حملة الانتخابات الأولى، أو أنه دعا للتصالح مع الكردستاني في وقت الحرب، وهي تفاصيل واضحة التحريف وعدم الدقة لأي مواطن تركي عادي، لكنها وضعت في سياق متكامل بهدف الإيحاء بصحتها.
النقطة الرئيسة الثالثة في تقييم المدونة أنها أوردت تفاصيل شبه اعتيادية في الحياة السياسية على أنها دلائل وقرائن على “خيانة” رئيس الوزراء المفترضة لرئيسه ونيته الانقلاب عليه، مثل التواصل مع وسائل إعلام تنتقد الرئيس، وطلب زيارة واشنطن بعد أقل من شهر من زيارة اردوغان لها، وعزمه على تشكيل حكومة ائتلافية، وعدم تأكيده على النظام الرئاسي في الحملة الانتخابية، وذكره إمكانية الحديث عن عملية سياسية لحل القضية الكردية في حال ألقى حزب العمال سلاحه، والاختلاف مع الرئيس في وجهات النظر على أمور تفصيلية (محاكمة الصحافيين دون اعتقال، ودعوته لعدم تضخيم بيان صحافي وقعه أكاديميون)، وعدم الدفاع عن الرئيس “كما يجب” حين وجهت له اتهامات بالتسلط أو الإسراف أو رغبته الشخصية في النظام الرئاسي أو انتقاد حدة خطابه من قبل بعض مسؤولي الاتحاد الأوروبي.
ومما يمكن استشفافه من أسلوب ومضمون المدونة أن من يقف خلفها ليس بعيداً عن الدوائر المقربة من اردوغان باعتبار ما تضمنته من أخبار خاصة و/أو سرية، وبسبب سقفها العالي جداً في وجه رئيس الوزراء. وهو أمر ما كان ليتم – ولا كانت المدونة لتبقى متاحة حتى اليوم – لولا علم اردوغان ورضاه عما جاء فيها، الأمر الذي قد يفسر التصريحات التي صدرت عن الرئيس وتوحي بأنه متأثر بما ورد فيها فضلاً عن إشارة داود أوغلو قبل قراره بالتنحي بأيام إليها ضمناً، قائلاً إن “الملف الوحيد الذي يهتم به هو الملفات التي تكتبها الملائكة في الصحف”.
في الخلاصة، ثمة ملحوظتان رئيستان تقفزان للذهن لدى مطالعة المدونة:
الأولى، أن معظم ما ذكر في المدونة من أحداث ومواقف يمكن تصنيفها بسهولة وتلقائية تحت بند الاختلاف في الرأي أو محاولة داود أوغلو الاستقلال جزئياً في قراراته كرئيس وزراء، ولا يرقى ما قدمته المدونة إلى مرتبة الدليل على أنها أتت في سياق الخيانة أو محاولة الانقلاب.
الثانية، أن المدونة بمضمونها وأسلوبها ومفرداتها وسقف خطابها الحاد وذكرها لأسماء بعينها من المستشارين والإعلاميين القريبين من داود أوغلو تمثل سابقة خطيرة وغير مسبوقة في الخلاف السياسي داخل صفوف العدالة والتنمية، الذي يبدو أنه وصل لمرحلة الدسائس والوشايا اللاأخلاقية من خلال الدعاية السوداء وسياسة “الضرب تحت الحزام”، بهدف تشويه سمعة الرجل وضرب مصداقيته وشعبيته تمهيداً للإطاحة به.
ويبدو أن المدونة، التي تم تداولها على أوسع نطاق بين الإعلاميين والسياسيين الأتراك فضلاً عن عامة الشعب، قد شاركت في إخراج الرجل من المشهد السياسي حين ختمت بالقول عنه: “لقد رضي بأن يكون بيدقاً في زي وزير، في لعبة شطرنج القوى العالمية التي تستهدف بلدنا … وتعاون مع كل أعداء الرئيس … هذا هو الصراع، ومعروف بالطبع من سيخسره”، وهو ما كان بعدها بأيام فقط. !!