في الرابعة من فجر يوم الأربعاء 24 آب/أغسطس، أعلنت القوات المسلحة التركية عن بدء عمليية عسكرية ضد تنظيم الدولة – داعش في مدينة جرابلس السورية القريبة من حدودها أطلق عليها لاحقاً اسم “درع الفرات”، وحملت متغيراً جذرياً في المقاربة التركية للأزمة السورية وألقت بظلالها على المشهد العام في كل من تركيا وسوريا، فضلاً عن أسئلة كثيرة أثارتها حول الدور التركي المرتقب في سوريا وعلاقات أنقرة مع مختلف الأطراف.
مرونة سياسية وتصعيد عسكري
ما إن استفاقت تركيا من كابوس الانقلاب المزعج حتى استأنفت مسيرة المصالحات في سياستها الخارجية، فزار اردوغان روسيا في خطوة أذابت الكثير من جليد العلاقات معها، وأقر البرلمان التركي اتفاقية التعويضات المتعلقة بالمصالحة مع دولة الاحتلال، كما قدم الساسة الأتراك رسائل إيجابية تجاه العراق ومصر، وكانت الخاتمة بخصوص سوريا.
ففي الخامس عشر من الشهر الجاري وفي لقاء مع صحيفة “قرار”، قال رئيس الوزراء التركي يلدرم إن بلاده تدعم الحل في سوريا وفق شروط أهمها الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ورفض إنشاء دويلة كردية في شمالها وعدم قيام نظام حكم طائفي فيها. لاحقاً، تواترت تصريحات يلدرم، التي كان أهمها تبشيره بمتغيرات مهمة في سوريا خلال ستة أشهر واعتباره الأسد “طرفاً في الأزمة” يمكن بقاؤه في السلطة خلال الفترة الانتقالية لكن “لا مكان له في مستقبل سوريا”. بينما أكد نائب رئيس الوزراء نور الدين جانكلي أن بلاده ستحسن علاقاتها التجارية والاقتصادية مع سوريا.
هذه المرونة السياسية تبدو كعربون تركي للتقارب مع موسكو أو إبداءً لحسن النوايا تجاهها، لكن أيضاً لا ينبغي إغفال انعكاسات المحاولة الانقلابية الفاشلة على السياسة الخارجية التركية ورؤية “تقليل عدد الخصوم” التي تبنتها تركيا، ورغبتها في إخراج سوريا من مستوى العبء ومساحات التأزم في العلاقات مع مختلف الأطراف – سيما روسيا – ونقلها لمستوى التعاون إن أمكن، وهو ما قد يفسر استخدام الرئيس اردوغان لمصطلحات كانت شبه حصرية للساسة الروس من قبيل “إن مستقبل سوريا يحدده السوريون وحدهم” رغم عمق الخلافات بين الطرفين.
بيد أن سياق التهدئة والمبادرات الودية في السياسة لم تمنع مبادرة تركية جريئة في شمال سوريا تجاه مدينة جرابلس التي يسيطر عليها “داعش” بقيادة القوات الخاصة التركية، شاركت فيها طائرات F16 وطائرات بدون طيار (مع غطاء جوي من التحالف الدولي)، وتخللها قصف مدفعي وصاروخي مركز، إضافة لتوغل دبابات تركية وجنود مشاة داخل الأراضي السورية لدعم قوات المعارضة السورية المتقدمة نحو جرابلس.
العملية التي أسمتها أنقرة “درع الفرات” في تذكير واضح بخطوطها الحمراء المتعلقة بتقدم القوات الكردية غربي الفرات أعلن عن ثلاثة أهداف رئيسة لها، هي طرد تنظيم الدولة – داعش من المدينة وحماية الحدود التركية والمحافظة على وحدة الأراضي السورية. ويبدو أن انسحاب التنظيم من المدينة، بعد أن قصفت المقاتلات التركية 12 هدفاً والمدفعية والدبابات 81 هدفاً له، قد أنهى المعركة – أو المرحلة الأولى منها – سريعاً.
جرابلس بين الاستراتيجيا والتكتيك
يعتبر تنظيم الدولة – داعش، المصنف على قوائم الإرهاب التركية، مصدر تهديد لأنقرة إذ تستهدف صواريخه مدينتي كيليس وكاركاميش الحدودتين بشكل مستمر، وتتهمه أنقرة بالوقوف خلف عدة عمليات انتحارية داخل أراضيها أهمها تفجير أنقرة الذي أودى بحياة أكثر من 100 مواطن تركي في تشرين الأول/أكتوبر 2015 وتفجير فوج سياحي ألماني في كانون الثاني/يناير 2016 وتفجير حفل زفاف في مدينة غازي عنتاب قبل أيام.
وإضافة إلى ذلك تقدر بعض التقارير الحكومية أن ما بين 2000 – 15000 شاب تركي قد انضموا للتنظيم أو ينتمون له فكرياً دون عمل مباشر كـ”خلايا نائمة” تنتظر دورها في معركة ضد تركيا يراها التنظيم قادمة. وباعتبار أن جرابلس هي آخر المدن الحدودية التي يسيطر عليها التنظيم وأقربها إلى تركيا فقد اتخذ القرار بإخراجه منها وإبعاده عن الحدود قدر الإمكان.
بيد أن التنظيم ليس السبب الوحيد خلف أهمية المدينة الاستثنائية بالنسبة لأنقرة. فتوسطها بين كانتوني عين العرب/كوباني في الشرق وعفرين في الغرب اللذين تسيطر عليهما الفصائل الكردية المسلحة (حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية قوات حماية الشعب) تجعل منها هدفاً استراتيجياً وضرورياً على طريق إنشاء دويلة أو ممر كردي في شمال سوريا، وهو ما تراه أنقرة ضاراً بأمنها القومي للعلاقة العضوية المعروفة بين هذه الفصائل وحزب العمال الكردستاني.
فيما بعد انتهاء معركة منبج التي هزم فيها تنظيم الدولة – داعش أمام قوات سوريا الديمقراطية ذات الأغلبية الكردية، لم يبدُ أن الضمانات الأمريكية المقدمة لتركيا بتراجع الأكراد فور انتهاء المعركة قد تحققت، بل بدأ الحديث عن الخطوة القادمة وفق عدة خيارات من بينها جرابلس، وهو ما ساهم في تسريع قرار التدخل. بمعنى أن العملية كان لها هدفان، تكتيكي قريب هو دحر التنظيم من المدينة لتأمين المدن التركية الحدودية من نيرانه، واستراتيجي بعيد هو منع السيطرة الكردية على المدينة ودعم سيطرة المعارضة السورية عليها كمساحة يمكن الانطلاق منها مستقبلاً في أكثر من اتجاه ووفق عدة سيناريوهات.
التحرك التركي العسكري الذي حسم الأمر خلال ساعات معدودة لا يقل نجاعة عن الإنجاز السياسي الذي تحقق لأنقرة. إذ يبدو أنها، مع هذا المتغير الكبير في سياستها المتعلقة بسوريا، قد استطاعت جمع المتناقضات لتتبدل مواقف مختلف الأطراف في هذه المعركة. فقد سمحت روسيا بالتوغل والطيران والقصف من قبل تركيا رغم تحفظها المعلن (وهي المرة الأولى من أزمة إسقاط المقاتلة الروسية)، وأيدت الولايات المتحدة العملية وشاركت فيها طائرات التحالف الدولي والطائرات بدون طيار التي تتبع له، وتخلت بعض فصائل المعارضة السورية عن موقفها الرافض لقتال تنظيم الدولة – داعش وحصر نشاطها بقتال النظام، كما تراجعت الفصائل الكردية شرقاً بعد التهديد التركي باستهدافها والتلويح الأمريكي – على لسان نائب الرئيس جو بايدن – برفع الغطاء عنها إن لم تفعل.
التحديات المستقبلية
حمل اليوم الأول للعملية نتائج مبهرة ومطئنة لتركيا، حيث سيطرت المعارضة على المدينة وانسحب التنظيم وتراجع الأكراد، في ظل تسهيل و/أو دعم أمريكي – روسي، لكن النتائج طويلة المدى ليست بالضرورة بذات السهولة بل تحمل بين طياتها عدة تحديات.
يرتبط التحدي الأول بالمدى الزمني للعملية وما يمكن لها أن تحققه. فما زالت تركيا على المستوى النظري ذات سياسة بعيدة عن أحلام التدخل والاحتلال وترى فيهما توريطاً لها لم تكن تريده إلا في سياق الاضطرار. بيد أن النجاح الخاطف قد يغري صانع القرار التركي بإمكانية تحقيق خطة “المنطقة الآمنة المصغرة” التي ما زالت تنتظر اقتناع حلفاء أنقرة منذ سنوات دون جدوى، وما يمكن أن يبنى عليها لاحقاً من مسارات.
ذلك أن استطالة أمد العملية، وفق الهدف المعلن على لسان يلدرم وهو إعادة الفصائل الكردية إلى شرق الفرات، قد يعني فعلاً وقوع تركيا في “المستنقع السوري” وفق تعبير صالح مسلم قائد حزب الاتحاد الديمقراطي وهو تهديد يجدر أخذه على محمل الجد في ظل حالة السيولة والمتغيرات شديدة السرعة في المشهد السوري.
وفي سيا ق متصل بهذا، لا يمكن لأنقرة الوثوق بثبات مواقف الأطراف المختلفة سيما روسيا والولايات المتحدة، فكلاهما معروف بتبديل المواقف والتحالفات وتوريط الأصدقاء قبل الخصوم، سيما وأن الأخيرة ما زالت تحتاج إلى الفصائل الكردية المسلحة كلاعب محلي تثق به أكثر من غيره، بينما لا زالت الأولى في خطوات الاختبار الأولى لعملية المصالحة مع أنقرة ولم تخف تحفظها على المبادرة التركية الجريئة في جرابلس، رغم علمها الواضح وسماحها المفهوم ضمنياً بها.
ويرتبط التحدي الثالث بمدى كفاءة المؤسسة العسكرية التركية، ليس على مستوى العدد والعتاد فتركيا تملك ثاني أقوى جيش في حلف الناتو بما يخرجها من أي مقارنة مع الفصائل المتناحرة على الرقعة السورية. لكن المؤسسة العسكرية ما زالت تعاني من ارتدادات المحاولة الانقلابية الفاشلة بسبب عملية إعادة الهيكلة وفصل المئات من القيادات وتغيير الخطط فضلاً عن حالة عدم الثقة بالنفس وعدم ثقة الساسة الكبيرة بها، وهو سياق لا يشجع على أي مغامرات في بلد تتواجد على أرضه جيوش عدة دول أكثرها على غير وفاق مع تركيا.
أما التحدي الرئيس الرابع فيكمن في مدى قدرة أنقرة على الموازنة بين هذا التصعيد العسكري الذي يرتبط بالمعركة المستمرة مع تنظيم الدولة وتقدم المعارضة السورية على جبهة حلب والموقف من الأكراد وغيرها من العوامل الميدانية التي يمكنها أن تؤثر في مساره ومصيره، وبين الحل السياسي الذي تريده وأعلنت دعمها له وقدمت عدداً من القرائن في هذا السياق.
التحدي الخامس الذي يجب على تركيا التعامل معه هو ردة فعل التنظيم ضدها (لاحظ أنه فضل الانسحاب على المواجهة) وهو الذي يملك – بفعل الحدود المشتركة والخلايا النائمة – عدداً من الأوراق يمكنه تفعيلها سيما ورقة العمليات الانتحارية، بعد أن ضاقت عليه الحلقة في سوريا وفي ظل الحديث عن قرب موعد معركة الموصل. ولا شك أن هذه الهجمات الانتقامية المحتملة سيكون لها تأثير مباشر على المشهد الداخلي التركي الذي لم يلتئم بعد من جراح الانقلاب.
في الخلاصة، رغم سرعة العملية العسكرية في مدينة جرابلس، إلا أن “درع الفرات” يبقى متغيراً استثنائياً في مقاربة تركيا للأزمة السورية، ويفتح الباب على سيناريوهات لا محدودة ولا يمكن الجزم بمساراتها، في ظل العدد الكبير من المتغيرات المؤثرة في المشهد، بين النظام والتنظيم والأكراد والمعارضة والقوى الإقليمية والدولية. وهو ما يعني أن الأسلم لتركيا هو تثبيت الإنجازات الميدانية والعودة لوضعية النأي بالنفس السابقة دون مغامرات على الأراضي السورية، مع رفع مستوى التنسيق والدعم للمعارضة السورية، ضمن رؤية شاملة لكيفية حل الأزمة السورية بسقف يرضي السوريين ويحفظ وحدة أراضيهم ويؤمن مصالح الجارة التركية المتمثلة في منع سيناريوهات التجزئة والتقسيم.