ستخلد تركيا يوم الخامس عشر من تموز/يوليو 2016 كمحطة فارقة في تاريخها الحديث لن تعود بعده كما كانت قبله، إذ أن إفشال المحاولة الانقلابية – في موجتها الأولى على الأقل – دفع الكثيرين للدعوة لإعلان اليوم عيداً أو “يوماً للديمقراطية” تحتفل فيه البلاد سنوياً.
ثلاث مراحل
كانت ليلة طويلة جداً وصعبة جداً وبالغة السخونة وسريعة المتغيرات، تأرجت فيها البلاد من حافة نجاح الانقلاب العسكري وإزاحة مؤسسات الدولة وقياداتها المنتخبة إلى مشهد سيطرة الرئيس والحكومة على الأوضاع، لكن نظرة أعمق لما حصل ويحصل تشير إلى ثلاث مراحل مختلفة مرت بها البلاد:
الأولى، مرحلة التحرك الحاسم للمجموعة الانقلابية، حيث أغلقت الجسور والطرق الرئيسة في البلاد وحاصرت مقر قيادة الأركان وقصفت البرلمان واستهدفت مقرات لجهاز الاستخبارات العامة وأوقفت العمل في المطار واحتلت مبنى التلفزيون الرسمي وأذاعت البيان رقم واحد منه.
الثانية، مرحلة مبادرة اردوغان ورد فعل الحكومة، حيث ظهر الرئيس في اتصال هاتفي على قناة تركية خاصة وبدا رابط الجأش عالي الثقة بالنفس والشعب ووجه الجماهير للميادين ولاستقباله في المطار، ثم تتابعت الخطوات الحكومية عبر أجهزتها الأمنية ومن خلال ثبات الشعب في الميادين وحول المؤسسات المهمة، وانتهى المشهد باستسلام المجموعات المسلحة في الشوارع.
الثالثة، وهي المرحلة اللاحقة على كسر حدة الانقلاب وأظهرت أن الترتيب له يتجاوز قدرات “الكيان الموازي” الذي يقصد به القيادة المتنفذة في جماعة الخدمة بقيادة “كولن”، بحيث شملت التوقيفات والاعتقالات على ذمة التحقيق قيادات وازنة في الجيش التركي مثل قادة الجيوش الثاني والثالث والرابع والقائد السابق للقوات الجوية وقيادات في مؤسسة الدرك/الجاندرما إضافة لما يقرب من 3000 من القضاة والمدعين العامين وأعضاء في المحكمة الدستورية العليا ضمن 5000 موقوف حتى لحظة كتابة هذه السطور.
قمة جبل الجليد
وفق هذه المعطيات، فإن مشهد ليلة 15 تموز/يوليو كانت مجرد رأس جبل الجليد فيما يتعلق بالمحاولة الانقلابية. لقد ظهرت قيادات عسكرية وازنة (أهمها قائد الفيلق الثالث) على قنوات التلفزة التركية في تلك الليلة ودعت الجنود “للعودة إلى ثكناتهم”، لكن أياً منها لم يشارك ميدانياً في مواجهة الفرق العسكرية الانقلابية، ثم اتضح لاحقاً أن شبهات تدور حول ضلوعهم في الانقلاب.
لقد بدا الرئيس التركي، القائد الأعلى للقوات المسلحة وفق الدستور التركي، عاجزاً عن قيادة وتوجيه المؤسسة العسكرية لمواجهة الانقلابيين ومعتمداً حصراً على قوات الأمن والشرطة والقوات الخاصة في الجيش إضافة طبعاً لجهاز الاستخبارات بقيادة ذراعه اليمنى حاقان فيدان والذي كان له الدور الأبرز فيما يبدو في المواجهة.
ولذلك تحديداً لم تتضمن تصريحات اردوغان دعوة للجيش للتدخل، بل دعا الجماهير للنزول للميادين وأعلن أنه سيكون بينهم، لكنه حصر الاتهامات في التنظيم الموازي نافياً فكرة تورط الجيش كمؤسسة باعتبار الانقلابيين “أقلية” داخل بنيتها بينما الجيش ككل “نظيف ووطني ولا يمكن له إطلاق النار على المواطنين”، رغم أنه سبق فعلياً له أن فعل ذلك في الانقلابات السابقة.
بهذا المعنى، يبدو أن ذكاء اردوغان ورباطة جأشه وبصيرته قد هدته لهذا الخطاب لعدم ثقته بكل القيادات العسكرية (رشح أن قائد الجيش الأول وقف معه) أو ضمانه لولائهم، وتحقيقاً لهدفين: محاولة تحييد المؤسسة العسكرية أو ما يمكن منها وحشرها في زاوية المسؤولية المعنوية والإحراج والمحاكمة أمام الضمير الشعبي، واستثمار الفرصة لإقصاء مجموعات “كولن” من القلعتين الأخيرتين لها في مؤسسات الدولة أي الجيش والقضاء.
أسباب الفشل
تشير تصريحات المسؤولين الأتراك والتطورات الميدانية بشكل واضح إلى انكسار حدة المحاولة الانقلابية وتراجعها وعدم تحقيق هدفها باستلام السلطة، رغم أن نفس التصريحات أكدت على “عدم زوال الخطر تماماً” ودعت الجماهير لالتزام الميادين ومؤسسات الدولة تخوفاً من موجة ثانية. وقد تضافرت عدة عوامل مهمة وحاسمة لضمان هذا الإفشال، وأهمها:
- محدودية المحاولة الانقلابية من عدة زوايا، فعلى المستوى الجغرافي لم تكد تتخطى مدينتي أنقرة وإسطنبول، وعلى مستوى المشاركة كانت قطاعات قليلة من الجيش هي من نزل الميدان، وعلى مستوى التنفيذ بقي الرئيس والوزراء في الحكومة أحراراً (تحدث اردوغان عن محاولة فاشلة لاغتياله)، وعلى مستوىالفاعلية كانت القوات المشاركة أضعف وأقل عدداً من أن تسيطر على الميادين ومختلف مؤسسات الدولة، وعلى مستوى السيطرة اللوجستية فقد عجز الانقلابيون عن إسكات صوت الإعلام الخاص – الذي تحول لمتنفس لاردوغان وحكومته – واكتفوا بسيطرة مؤقتة على قناة التلفزة الرسمية فقدوها سريعاً.
- التأثير الحاسم لظهور الرئيس اردوغان سريعاً على إحدى القنوات الخاصة بما أعطى إيحاء واضحاً على عدم حسم الموقف الميداني، كما كان ثباته ورباطة جأشه وتوجيهه للجماهير عاملاً ملهماً لزيادة عدد المواطنين الذين نزلوا للشوارع وواجهوا مجموعات الجيش، ثم كان ظهوره في مطار إسطنبول إيذاناً بكسر حدة الهجمة والسيطرة النسبية على الأوضاع.
- حشود المواطنين الكبيرة في مختلف ميادين أنقرة وإسطنبول ودفاعهم عن مؤسسات الدولة المختلفة، خصوصاً بلدية إسطنبول الكبرى ومطار أتاتورك ومبنى الأمن العام وجسري البوسفور والسلطان محمد الفاتح في إسطنبول، حيث أعطى هذا الزخم الجماهيري صورة واضحة عن افتقاد التحرك للحاضنة الشعبية كما ساهم في كبح جماح القمع الذي كان يمكن أن تمارسه القوات في الميدان وحدَّ من هامش الفعل لديها.
- وسائل الإعلام التركية، سيما الخاصة، التي كانت نافذة لظهور الرئيس اردوغان ورئيس الوزراء يلدرم وعدد كبير من القيادات السياسية والعسكرية رفضاً للانقلاب ودعوة لمواجهته، وقد كان تواصل اردوغان هاتفياً مع قناة CNN TURK (المعارضة له وواسعة الانتشار والمتابعة) عاملاً حاسماً في تعديل دفة الأحداث.
- الموقف الموحد لمختلف الأحزاب السياسية التركية ومنذ الدقائق الأولى للانقلاب في رفضه وتأكيد دعمها للمؤسسات والشخصيات المنتخبة، وهو ما حرم الحركة الانقلابية من ذريعة حمايتها للديمقراطية والحياة السياسية في البلاد.
- أخيراً، وهو الأهم، الموقف الحاسم الذي اتخذته أجهزة الشرطة والأمن والمخابرات والقوات الخاصة في مواجهة المجموعات الانقلابية في ظل الغياب الميداني لمختلف قطاعات الجيش، فضلاً عن الدورالحاسم والمتوقع لجهاز الاستخبارات تحديداً في سياقيْ المعلومة والمواجهة الميدانية.
التداعيات المستقبلية
من الصعوبة بمكان أن يمر هذا الحدث المفصلي في تاريخ تركيا الحديث دون تداعيات مهمة ومفصلية في مستقبل المشهد الداخلي التركي ومسيرة العدالة والتنمية بشكل عام.
ففي المقام الأول، يمكن أن يكون فشل هذه المحاولة عاملاً حاسماً في إسدال الستارة نهائياً أمام أي انقلاب قادم، بعدما فشلت في ذلك كل الأضرار التي تسببت بها الانقلابات الأربعة السابقة ومحاكمات القادة والضباط وإنجازات تركيا مؤخراً. ذلك أن صدى الفشل والضغوط المعنوية الشديدة على المؤسسة العسكرية إضافة للإجراءات المتوقعة في توقيف المشتركين في الانقلاب سيكون لها أثر مباشر على ذلك.
من ناحية أخرى، سيكون عنوان الأيام والأسابيع القليلة القادمة مكافحة “التنظيم الموازي” المتهم الأول بالتخطيط للانقلاب، وإقصائه تماماً من المؤسستين العسكرية والقضائية وهو ما بدأ فعلاً منذ الساعات الأولى لفشل الانقلاب، حيث أوقف خلالها أكثر من 2700 من القضاة والمدعين العامين المحسوبين عليه.
أما على المدى المتوسط، فسيكون حديث ودور اردوغان الحاسم في إفشال الانقلاب زيادة في رصيده الشعبي وثقة المواطن به واقتناعه أكثر بفكرة استهداف تركيا العدالة والتنمية والرئيس، مما سيمنح الأخير فرصة لتفعيل وتسريع ملف الدستور الجديد والنظام الرئاسي، وقد يساعد تكاتف مختلف الأحزاب ضد الانقلاب وروح التناغم والتهدئة التي سادت منذ ذلك الحين في تخفيف حدة الاستقطاب السياسي بينها رغم الخلافات،وإعداد أرضية لحوار هادئ – على الأقل مع بعضها – قد يفيد فيإيجاد حلول وسط عملية في ملف الدستور الذي يحتاج لتوافق مجتمعي وسياسي أكثر من الأغلبية العددية.
أما استراتيجياً، فستكون كل هذه التطورات فرصة لاردوغان ومن خلفه العدالة والتنمية لإعادة هيكلة القوات المسلحة التركية وضبط بوصلة ولائها ومنظومة أفكارها، سيما وأنها في وضع لا تحسد عليه بعد مسؤوليتها غير المباشرة عما حصل وفشل المحاولة الانقلابية وحملة التوقيفات التي طالت وستطال قيادات وازنة فيها. يدرك اردوغان أكثر من غيره أن 14 عاماً من الحكم غير كافية لتغيير عقيدة المؤسسة العسكرية ومنظومة أفكارها التي تدور حول تميزها باعتبارها موسِّسة الجمهورية وحامية حماها ومبادئها فضلاً عن عدم رضاها عن الخلفية المحافظة – الإسلامية لقيادات العدالة والتنمية، فضلاً عن الاعتراضات المتوقعة على حملة التوقيفات الواسعة في جهازي الجيش والقضاء بما يمكن أن يحفز تحركاً مشابهاً مستقبلاً.
إن أغلب ما قام به العدالة والتنمية منذ 2002 يندرج تحت بند الإصلاحات المتدرجة والبطيئة تحت سقف الدستور، أما اليوم فقد يكون أمام فرصة القيام بإجراء تغييرات سريعة وعميقة في بنية عدد من المؤسسات، أهمها العسكرية والقضائية، بما يضمن بقاءها تحت سقف الدستور وطوع قرار القيادة السياسية، وهي متغيرات لا غنى لتركيا عنها في سبيل تحقيق الاستقرار والتنمية على المدى الاستراتيجي البعيد.
لقد كانت لحظة الانقلاب الفاشل محنة شديدة لتركيا، لكنها قد تحمل بين طياتها منحاً كثيرة متعلقة بتفاصيل السياسة الداخلية التركية الآن واستراتيجياً، أما انعكاساتها المحتملة على السياسة الخارجية التركية – كأحد الاسباب النظرية للانقلاب – فهي مما لا تتسع له مساحة هذا المقال، وقد نعود لها في مقال لاحق.