فاجأت تركيا المراقبين بقفزتين كبيرتين في سياستها الخارجية في يوم واحد، حيث وقعت اتفاق مصالحة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وبدأت رسائل إيجابية متقدمة مع روسيا حول تطبيع العلاقات بينهما بعد سبعة أشهر من القطيعة إثر أزمة إسقاطها للمقاتلة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر الفائت. ولئن كان التطوران متوقعين في ظل المفاوضات المستمرة منذ فترة بمنحى “إيجابي” مع تل أبيب والتصريحات المتواترة من القيادات التركية حول رغبتهم بعودة العلاقات مع موسكو قريباً، إلا أن سرعة الحدثين وتزامنهما زادا من تأثير الصدمة لدى الكثيرين وفتحا الباب على أسئلة كثيرة، في مقدمتها: هل يكون التقارب مع النظام المصري هو الخطوة التالية؟
منذ تسلم بن علي يلدرم رئاسة العدالة والتنمية والحكومة التركية خلفاً لأحمد داود أوغلو، كان واضحاً أن أولويته في السياسة الداخلية هي مواجهة حزب العمال الكردستاني وصياغة دستور جديد للبلاد، ثم اتضح لاحقاً أن أولوية السياسة الخارجية في عهده هي إعادة ضبط بوصلتها على موجة “الواقعية” المعهودة عنها على مدى سنوات طويلة ما قبل 2011، وفق شعار “سنزيد من أصدقائنا ونخفض من عدد أعدائنا وخصومنا”، وهي مبادئ وأفكار تبلورت في عهد داود أوغلو لكن يبدو أن التغير في المستوى القيادي قد أعطاها زخماً وسرعة.
مؤخراً، صرح يلدرم نفسه أن أهم أهداف تركيا هو تحويل “كل دول حوضي البحرين المتوسط والأسود” إلى أصدقاء لها، وهو تصريح يشي بدخول مصر وسوريا (النظام) في حيزها، الأمر الذي دفع بالصحافيين لسؤاله بشكل مباشر حول إمكانية تحسين العلاقات مع مصر. فكان جوابه أن تركيا ما زالت تعتبر ما حصل في مصر انقلاباً لكن “الحياة تستمر”، وأنه ليس هناك ما يمنع عودة العلاقات بين البلدين على مستوى الوزراء وفي المجال الاقتصادي “الذي يمكن أن يهيئ الأرضية لعودة العلاقات”.
تدعم هذه التصريحات ما ذكرناه في عدة مقالات سابقة حول أن الأصل في العلاقات الدبلماسية (والأهم التجارية) بين الدول هو التواصل حتى في ظل الخلاف، وأن تركيا لا تستطيع تجاهل دولة بحجم مصر وموقعها ودورها إلى الأبد سيما بعد الاستقرار النسبي الذي يتمتع به نظام السيسي وفشل الرهان على القوى الثورية في العالم العربي ككل، وأن أنقرة لا ترفض العلاقات مع مصر من ناحية مبدئية بل تربطها منذ فترة باشتراطات إجرائية تتعلق بالحريات وحقوق الإنسان فيها، وأن الاستدارة في ملف السياسة الخارجية ليست قفزة عشوائية بل رؤية تسير عليها تركيا مؤخراً للخروج من عزلتها الدولية وأزماتها المتلاحقة مع عدة محاور وتكتلات.
هذا من الناحية المبدئية – النظرية، أما من الناحية العملية فإن العوامل المحفزة لأنقرة للتقارب مع القاهرة كثيرة، فإضافة إلى التوجه العام بتدوير الزوايا مع مختلف الأطراف ثمة مصالح اقتصادية ضاغطة، ورغبة في إعادة إحياء اتفاقية “الرورو” للملاحة البحرية للوصول إلى دول الخليج وبعض الدول الإفريقية في ظل استبعاد عودة التجارة البرية عبر سوريا قريباً، ومهددات إقليمية مشتركة، وحلفاء للطرفين يشجعون/يضغطون باتجاه التقارب، فضلاً عن رغبة تركيا في العودة للعب أدوار إقليمية فاعلة منعها أو حجمها حتى الآن التوتر مع عدد من الدول من ضمنها مصر.
من جهة ثالثة، دخل عامل جديد ضاغط على ملف العلاقات التركية المصرية تمثل بتواصل النظام المصري مع حزب العمال الكردستاني المصنف في تركيا منظمة إرهابية والذي يمثل بالنسبة لها التهديد الأول لأمنها القومي، إذ يخوض منذ 1984 حرباً انفصالية أوقعت حوالي 30 ألف قتيل وخسائر اقتصادية تقدر بما يقارب 500 مليار دولار، فضلاً عن حالة التصعيد التي يخوضها منذ تموز/يوليو الماضي في مناطق الأغلبية الكردية جنوب شرقي البلاد.
فقد نشرت بعض الصحف التركية قبل أيام تقارير رصدت عدة اجتماعات بين المخابرات المصرية وممثلين عن الحزب في القاهرة تعهد فيها الطرف المصري للحزب بدعم مالي وتسليحي في مقابل مساعدة الأخير للنظام في التجسس على المصريين المقيمين في تركيا وفي مقدمتهم الإخوان “والقيام بعمليات ضدهم إن اقتضت الضرورة”. يضاف هذا التطور إلى سماح النظام لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) – الامتداد السوري للكردستاني – بفتح مكتب تمثيلي له في القاهرة، وهي خطوات لا يمكن قراءتها في إطار الصراع المصري الداخلي حصراً بل ذات علاقة بالتوتر على خط القاهرة – أنقرة للضغط على الأخيرة.
بيد أن كل هذه المسوغات النظرية والعملية، المبدئية والمصلحية والاحترازية، لا تعني أن طريق “المصالحة” بين الجانبين مفروشة بالورود، ولعل أهم دليل على ذلك التصريحات التوتيرية التي قابل بها النظام المصري تصريحات رئيس الوزراء التركي. إذ يبدو أن القاهرة ما زالت غير مستعدة لاستحقاقات هذه المصالحة المفترضة، والتي تتراوح بين مستويات عدة، مثل التجاوب والتنازل عن حدة الخطاب أو الالتزام بمعايير الحد الأدنى من الحريات واحترام حقوق الإنسان أو الاستعداد لمصالحة مصرية داخلية قد تطلب منه لاحقاً كسقف أعلى لإعادة العلاقات لسابق عهدها.
وعليه، إذا ما تذكرنا أن تركيا لم تكن هي السباقة لقطع العلاقات مع مصر وإنما ردت على الخطوات المصرية التصعيدية، وإذا ما لاحظنا أن حدة التراشق الإعلامي قد غابت منذ فترة ليست بالقليلة على الأقل من الجانب التركي، وإذا ما أكدنا حاجة الطرفين لبعضهما البعض على الأقل تجارياً، وإذا ما وضعنا في الحسبان أن الضغط أحياناً قد يساهم في تليين المواقف أكثر من تصعيدها (لم يرد أي رد فعل تركي رسمي فيما أعلم حتى الآن على التواصل بين القاهرة وحزب العمال)، وإذا ما أضفنا الأخبار المتواترة عن وفد تركي سيزور القاهرة قريباً، فإن “المصالحة” بين الطرفين لا تبدو بعيدة بل ممكنة وقريبة، ولكنها ليست طريقاً واحدة محددة بل نحن فعلياً أمام أحد ثلاثة سيناريوهات:
الأول، تفعيل العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري بين البلدين دون أي تفاعل على المستوى السياسي – الدبلماسي، وهو الحد الأدنى من العلاقات الذي لا يتطلب مواقف محددة من الطرفين، باستثناء توفر الإرادة وعدم الممانعة، وهو ممكن وأعتقد أن الجانبين يريدانه ويعملان عليه، بل يمكن القول إنهما قطعا فيه شوطاً مهماً من خلال عدم انقطاع العلاقات التجارية تماماً وعبر عدة تواصلات حدثت على مدى الشهور والسنوات الماضية.
الثاني، بدء علاقات ولقاءات وزيارات بين السياسيين من الطرفين، وهو أمر ممكن على المدى المتوسط، بحيث يشمل الوزراء والبرلمانيين ورجال الأعمال وربما العسكريين من الطرفين باستثناء مستوى رئاسة الجمهورية، وهو سيناريو مرغوب – برأيي – أيضاً من الطرفين لكنه يحتاج إلى خطوات بناء ثقة أو تصريحات أولية تصلح “للنزول عن الشجرة” كما حصل على مستوى العلاقات التركية – الروسية. ويؤكد الرغبة التركية في هذا الاتجاه تصريحُ وزير الخارجية التركي برغبته في لقاء نظيره المصري رغم التصريحات غير الإيجابية التي صدرت عن القاهرة.
الثالث، التطبيع الكامل للعلاقات على جميع المستويات وفي مختلف المجالات وربما تفعيل التعاون في الملفات الإقليمية أو تأسيس مجلس أعلى للتعاون الاستراتيجي كما هو حال تركيا مع عدد من الدول. لكن هذا السقف العالي من العلاقات لا يمكن الوصول له في ظل الوضع الحالي وفي ظل وجود السيسي تحديداً، أولاً للاعتبارات الشخصية بين الطرفين، وثانياً لارتباط اسمه تحديداً بالكثير من التجاوزات والمجازر وبالانقلاب بشكل مباشر، وثالثاً لأن إعادة العلاقات في وجوده تتطلب قبولاً كاملاً لمخرجات المرحلة التي قاد مصر خلالها. وبالتالي فربما يجمّد هذا السيناريو حالياً ثم يوضع على سكة التفعيل في مرحلة ما بعد السيسي بغض النظر عن طريقة غيابه أو تغييبه وبغض النظر عن شكل الحياة السياسية والأوضاع في مصر من بعده.
في الخلاصة، ثمة رغبة تركية جلية بل إصرار واضح على تحسين العلاقات مع مصر، وثمة تمنـّع قد لا يصمد كثيراً من طرف الأخيرة، وسيعتمد مستقبل العلاقات بين الطرفين على مدى إقبالهما على خطوات بناء الثقة بالتدريج وقبولهما لها، لكنها بالتأكيد لن تبقى أبداً على الوضع الحالي، كما لن تعود أبداً إلى حالة القطيعة التامة فيما يبدو.