قراءة في سياق الهجمات الإرهابية الأخيرة ضد تركيا
TRT عربي
24/2/2024
تكافح تركيا تنظيم PKK الإرهابي منذ أكثر من أربعة عقود، وهي مدة زمنية طويلة عرفت محطات عدة من المد والجزر، غير أن العقد الأخير حمل تطورات مهمة ومختلفة على هذا الصعيد.
ومنذ 2015 وبعد تصعيد التنظيم الإرهابي عملياته، وأنقرة تنتهج مقاربة مختلفة عن السابق في مكافحة الإرهاب، وبعد خوض عملية مكافحة واسعة وشاملة داخل الأراضي التركية، تكللت بتطهير المناطق المذكورة من أي نفوذ بارز لتنظيم PKK الإرهابي، أطلقت أنقرة عملية مكافحة خارج الحدود وفق مبدأ الحرب الاستباقية.
وقد بُنيت الرؤية التركية الجديدة على أن المكافحة الدفاعية يجب أن تمتد أيضاً خارج الأراضي التركية، من أجل “تجفيف الإرهاب في مستنقعاته” كما صرّح الرئيس أردوغان.
من الصعب فهم هذا النوع من الهجمات من دون سياقه ورسائله المحتملة، ولا سيما أن الملف الخلافي الأول لأنقرة مع واشنطن يدور حول دعم الأخيرة للتنظيمات الإرهابية، فضلاً عن أنها قرأت الحضور الأمريكي العسكري في شرق المتوسط بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 على أنه رسالة لأطراف عدّة لا تستثنيها هي أيضاً
رؤية جديدة وناجحة لمكافحة الإرهاب
وهنا، أطلقت تركيا عمليتها الأولى مع الجيش الوطني السوري”درع الفرات”، في 2016 لتطهير شمالي سوريا من التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها “داعش”، وتأمين حدودها الجنوبية، وذلك استناداً إلى المادة 51 من وثيقة الأمم المتحدة، التي تنص على الحق الطبيعي للدول الأعضاء في الدفاع عن أنفسها إذا اعتدت قوة مسلحة على إحداها، ثم تبعتها بعدة عمليات نتج عنها إبعاد وإضعاف قدرات تلك المنظمات.
كما عمقت تركيا عملياتها شمالي العراق من خلال سلسلة عمليات “المخلب” التي استهدفت أوكار التنظيم الإرهابي ومخيمات تدريبه ومستودعات سلاحه، وعلى رأسها جبال قنديل التي تعد المعقل الرئيسي للتنظيم، وقد أُطلقت أولى تلك العمليات في مايو/أيار 2019، وتبعتها عدة عمليات بُنيت كل واحدة منها على سابقتها، كان آخرها في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي.
فضلاً عن التحييد المباشر لما يُدعى بـ”مسؤولين”، في التنظيم الإرهابي في كلّ من شمالي سوريا والعراق، نفذها جهاز المخابرات بشكل أساسي وأحياناً بالتعاون مع القوات المسلحة التركية.
وتزامن كل ذلك مع الأولوية التي منحتها تركيا للصناعات الدفاعية المحلية، التي حققت قفزات كبيرة خلال سنوات معدودة، ووضعت تركيا في مصاف الدول المصدرة لها، وتحديداً المسيّرات، بعد أن كانت تشتري من الخارج، وصولاً إلى مرحلة أن تعتمد العمليات العسكرية ضد التنظيمات الإرهابية شمالي سوريا والعراق على السلاح المصنع محلياً بنسبة تتجاوز 80%، وفق تصريحات حكومية.
استمر هذا السياق المطرد من المكافحة المستمرة والناجحة، وأعلن وزير الداخلية علي يرلي قايا شبه خلو الأراضي التركية من عناصر التنظيم الإرهابية، واقتصار المكافحة في معظمها على العمليات خارج الحدود.
قراءة في السياق الحالي
بيد أن هذا السياق المستمر منذ سنوات، طرأ عليه عمليات استهداف للجنود الأتراك في العراق مؤخراً، إذ استشهد 12 جندياً تركياً في شمال العراق في الأسبوع الأخير من العام الفائت، إضافة إلى تسعة آخرين في 12 يناير/كانون الثاني الماضي، وفق بيانات وزارة الدفاع، إضافةً إلى بعض الشهداء الآخرين في أحداث متفرقة.
العدد الكبير من شهداء الجيش في أحداث متقاربة زمنياً وبعد سنوات من العمليات الناجحة في شمال العراق أعطى انطباعاً بمتغيرات ما، ما يدفع لمحاولة قراءة بعض السياقات المحلية والإقليمية والدولية لفهم اتجاه الرسائل وفحواها ودلالاتها.
في السياق المحلي تقترب الانتخابات المحلية المزمع عقدها في 31 مارس/آذار المقبل، وفي العادة فإن اقتراب أي استحقاق انتخابي يدفع التنظيم الإرهابي إلى محاولة الضغط والتأثير. لكن، وإنْ بدا أن الانتخابات القريبة عامل مهم في التقدير، إلا أنه ينبغي النظر لها على أنها السياق الزمني أو التوقيت وليست بالضرورة السبب الرئيس خلف تلك العمليات الإرهابية.
ولذلك، ينبغي أن يتجه التقييم لحدثين مهمين لتركيا وعلاقاتها الخارجية في الشهور الأخيرة، أولهما ملف انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي كان موضوعاً على أجندة مجلس الأمة التركي الكبير (البرلمان)، والثاني موقف تركيا من العدوان “الإسرائيلي” على غزة، وخصوصاً أن لكليهما علاقة من وجه ما بملف مكافحة الإرهاب.
ذلك أن الاعتراضات الرئيسية لأنقرة على انضمام السويد وفنلندا للناتو كانت تتعلق بشكل أساسي بسماحها بأنشطة داعمة للتنظيم الإرهابي على أراضيها، وعدم تعاونها في ملف المطلوبين لتركيا، فضلاً عن حظر تصدير السلاح لأنقرة على خلفية عملياتها العسكرية في الشمال السوري.
وقد قبلت تركيا ملف فنلندا بالنظر لإيفائها إلى حدّ كبير بالتزاماتها وفق البروتوكول الموقع بين الدول الثلاث، تركيا والسويد وفنلندا، بهذا الخصوص، كما أنها جنحت لاحقاً للموافقة على الملف السويدي بعد تقييمه بإحالته للبرلمان للتصويت عليه.
ولكون أن الهجمات التي استهدفت الجنود الأتراك في شمال العراق، أتت قُبيل تصويت البرلمان على الملف، يمنحها دلالات ذات قيمة في تقدير الموقف على أقل تقدير، علماً أن بعض الباحثين والإعلاميين تحدثوا صراحةً بأن “الأمر قد يكون رسالة أمريكية مباشرة للضغط على تركيا بخصوص ملف السويد”، رغم أن التوقعات كانت تشير إلى إقرار البرلمان، وهو ما حصل قبل أيام.
ما زالت أنقرة تسعى إلى إقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن دعم التنظيمات الإرهابية في الشمال السوري، وهو ما لم يحصل حتى اللحظة، لكن يبقى ممكناً دائماً بالنظر للاستراتيجية الأمريكية العامة بخصوص المنطقة، وقد تكون التصريحات التي وردت في الأيام القليلة الماضية عن عدم نية واشنطن البقاء طويلاً في سوريا مؤشراً في هذا الاتجاه
الموقف التركي من حرب غزة
وفيما يتعلق بالعدوان “الإسرائيلي” على غزة، فقد تطور الموقف التركي خلاله بشكل ملحوظ في مواجهة جرائم الحرب التي اقترفها الاحتلال ضد المدنيين في غزة، وفق عديدٍ من المنظمات الدولية والدول، وفي مقدمتها تركيا، ورفضت الأخيرة، وعلى لسان الرئيس أردوغان، تصنيف حركة حماس “منظمة إرهابية” مؤكدة أن “إٍسرائيل دولة إرهاب”، ومتحدثة عن “طيّ صفحة نتنياهو” وعدم التعامل معه مع التهديد بمحاكمته دولياً.
وقد تنوعت ردود الفعل “الإسرائيلية” على موقف أنقرة وتصريحات الرئيس أردوغان بين الرفض والتهجم والتحريض، لكن أهمَّها في سياق الهجمات الأخيرة هو تعريض نتنياهو بمكافحة تركيا للإرهاب، مدعياً أنها “تقتل المدنيين”، في سياق رفضه للموقف التركي الشاجب لانتهاكات جيش الاحتلال في غزة.
وعليه، من الصعب فهم هذا النوع من الهجمات من دون سياقه ورسائله المحتملة، ولا سيما أن الملف الخلافي الأول لأنقرة مع واشنطن يدور حول دعم الأخيرة للتنظيمات الإرهابية، فضلاً عن أنها قرأت الحضور الأمريكي العسكري في شرق المتوسط بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 على أنه رسالة لأطراف عدّة لا تستثنيها هي أيضاً.
كان من اللافت أن أحد تصريحات الرئيس التركي بخصوص العدوان على غزة تضمن ما معناه أن الحرب الأخيرة على غزة أثبتت لتركيا مجدداً مدى أهمية تعزيز قدراتها الذاتية وتقوية نفسها عسكرياً وأمنياً بما يشمل الاعتماد على الذات والسعي باتجاه الاكتفاء الذاتي بخصوص الصناعات العسكرية.
من جهة ثانية، وكما كان متوقعاً لم تُترك هذه الهجمات من دون ردّ، بل ردود بدأت بالاشتباك المباشر مع العناصر التي استهدفت الجنود الأتراك في حينه، وأكدت القوات المسلحة التركية تحييد عدد كبير منهم، واستمرت مع غارات جوية متكررة على معاقل التنظيم الإرهابي في شمال العراق، وصولاً لإعادة التلويح بعملية عسكرية جديدة في شمال سوريا، ما زالت أنقرة ترى أنها ضرورية في سياق مكافحة الإرهاب للعلاقة العضوية بين الامتدادات السورية والعراقية للتنظيم الإرهابي.
من ناحية أخرى، ما زالت أنقرة تسعى إلى إقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن دعم التنظيمات الإرهابية في الشمال السوري، وهو ما لم يحصل حتى اللحظة، لكن يبقى ممكناً دائماً بالنظر للاستراتيجية الأمريكية العامة بخصوص المنطقة، وقد تكون التصريحات التي وردت في الأيام القليلة الماضية عن عدم نية واشنطن البقاء طويلاً في سوريا مؤشراً في هذا الاتجاه.
وفي الخلاصة، سيكون اقتراب موعد الانتخابات المحلية في تركيا عاملاً محفزاً للتنظيمات الإرهابية ومن يقف خلفها لمحاولة إثارة القلاقل، لكن أنقرة تبدو مصممة على عدم السماح لأي طرف بالتلاعب أو اللعب في هذه المساحة، وقد استفادت بشكل كبير من خبراتها ونجاحاتها المتراكمة في السنوات القليلة الأخيرة في هذا المضمار.
لذلك، من المستبعد أن يكون لهذه العمليات الإرهابية أي تأثير في صانع القرار التركي، إلا بمزيدٍ من الإصرار على الرؤية الحالية وتعزيزها.