حقائق حول الاحتلال تبشّر بزواله
مع استمرار العدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة لأكثر من ثمانين يومًا، ومع صمود الناس، وبسالة المقاومة الفلسطينية، تتبدّى مع الوقت زوايا جديدة، واعتبارات إضافية للحرب وتداعياتها، ومن ذلك ما يتعلق بدولة الاحتلال، وخصوصًا ما يرتبط بمستقبل وجودها في المنطقة.
معركة مختلفة
ثمة معضلة أساسية في تقييم الحرب الحالية على قطاع غزة، منشؤُها أنها مختلفة تمامًا عن كل المواجهات السابقة، وبالتالي عدم وجود نموذج سابق يمكن البناء أو الاعتماد عليه في التقييم والاستشراف.
فرغم أنّ دولة الاحتلال شنّت عدة حروب على القطاع، في 2008 – 2009، و2012 و2014، ورغم أن المقاومة الفلسطينية بادرت لمواجهة 2021 (معركة سيف القدس)، فإن الاختلافات بين كل ما سبق وحرب “طوفان الأقصى” الحالية كثيرة وعميقة وجذرية.
في مقدمة هذه الاختلافات “شكل المعركة”، بحيث كانت مبادرة هجومية الشكل – دفاعية الهدف – من كتائب القسام، وبأسلحة وأدوات وأهداف بعيدة عن تلك المرتبطة بالمواجهات العسكرية السابقة، وتحديدًا فرض المعركة على “أرض العدو”.
من أبرز الاختلافات كذلك، “الوحشيةُ غير المسبوقة” التي تدير بها “إسرائيل” عملياتها العسكرية في قطاع غزة، وتحديدًا ضد المدنيين، وهو ما وصفَه العديد من الأطراف بجرائم الحرب والإبادة.
ومنها أهداف العملية العسكرية، وتحديدًا البرية منها، وَفق ما هو معلن من قبل الاحتلال، ومما يرد في بعض التصريحات والتحليلات السياسية والعسكرية، وفي مقدمة ذلك إنهاءُ حكم حماس في القطاع، وخططُ تهجير السكان وتفريغ القطاعِ منهم، وإنهائِه كحالة سياسية وإعادة احتلاله إن أمكن.
كما أن من أهم الاختلافات “الموقفُ الغربي” الداعم للاحتلال بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، التي تنظر للحرب على أنها حربها هي، مقابل موقف عربي – إسلامي أقل ما يقال فيه؛ إنه عاجز عن إغاثة غزة، فضلًا عن نُصرتها، بل يصل موقف بعض الأنظمة حدود التواطؤ والتناغم مع الأهداف “الإسرائيلية” المتعلقة بحركة حماس على وجه التحديد.
حقائق
يدفع كل ما سبق للتواضع والتحفظ في التقييم والتقدير والاستشراف فيما يخصّ الحرب ومساراتها ونتائجها ومآلاتها المستقبلية، فكل ما سبق في ظروف الحرب الحالية لا يعدو كونه محاولة للتفسير في سياقات عامة إلى حد كبير.
ورغم ذلك، ما زال بالإمكان رصد بعض الأمور والتطورات المنطوية على أهمية بالغة، وفي مقدمتها بعض الحقائق المتعلقة بمشروع الكيان الصهيوني منذ تأسيسه، وكذلك فيما يتعلق بمستقبله في المنطقة.
ولعل التشابه الكبير بين بعض التطورات الحالية، ووقائع المشروع الصهيوني على الأراضي الفلسطينية، من ضمن ما دفع الكثيرين لتشبيه الحرب الحالية بنكبة عام 1948 وتسميتها بالنكبة الثانية، وما إلى ذلك.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك تشديد الرئيس “الإسرائيلي” إسحاق هرتسوغ على أنه “ليس هناك أبرياء في غزة”؛ لتسويغ الجرائم ضد المدنيين، وتصريح وزير الدفاع يوآف غالانت بأن الفلسطينيين أو المقاومين “حيوانات بشرية”، ويضاف لذلك احتفاء الجنود والضباط واحتفالهم بقتل الأطفال، واستهداف المنازل، فضلًا عن دعوات بعض الإعلاميين لقتل مئات الآلاف من سكان غزة حتى يطمئنوا – هم – ويستريحوا.
وبالتأكيد فإن الحرب الحالية أعادت للأذهان المجازر والمذابح التي قامت بها العصابات الصهيونية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وكررها جيش الاحتلال اليوم غير مكترث بقانون دولي، أو انتقادات من الرأي العام، أو مناشدات من المنظمات الدولية المختلفة.
ويسري ذلك أيضًا على الحصار والتجويع والاغتيالات الميدانية للمدنيين العزّل؛ بهدف التهجير وتفريغ الأرض من سكانها، في سعي لفرض واقع جديد في القطاع، وكذلك في محاولة بائسة لتقليل الضغوط الخارجية، وادعاء عدم استهداف المدنيين، عكس الوقائع التي لا يجادل فيها أحد.
ومن أهم ما ذكّرت به الحرب الحالية مدى اعتماد دولة الاحتلال على الدعم الخارجي الذي بدا وكأنه حيوي لا يمكنها الاستغناء عنه أو البقاء بدونه. ولسنا هنا نتحدث فقط عن الدعم السياسي والإعلامي لبعض الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ولكن كذلك عن الدعم العسكري المباشر، بما في ذلك تصدير وبيع السلاح بمختلف أنواعه، علمًا أنها لا تخوض حربًا إقليمية، ولا تواجه عدة دول في آنٍ معًا، وإنما تشن حربًا غير متكافئة ضد حركة مقاومة لا توازُنَ البتة لها من حيث العدد والعتاد والتسليح معها، فضلًا عن أن معظم الجهد العسكري يستهدف المدنيين.
ويصب كل ما سبق في مدى احتياج دولة الاحتلال لبروباغندا قوية ودعاية مضللة تضفي عليها هالة من الأسطورة؛ لتحمي نفسها وتبقى قائمة، من قبيل خرافات: “الجيش الذي لا يقهر”، و”الاستخبارات التي تعرف كل شيء في كل مكان”، والجندي المدجج بالسلاح والتكنولوجيا، وغير ذلك، بما يمنحها حالة من الردع الضمني، ويساعدها في مجال الحرب النفسية دون بذل جهد كبير في الميدان.
حرب وجودية
في خلاصة ما سبق، أن الاحتلال – ورغم تفوقه العسكري والاقتصادي والتقني في المنطقة- لا يقوم بمفرده بل يحتاج لدعم خارجي في كل المجالات، حتى وهو يخوض حربًا ضد حركة مقاومة خبرها لعقود، وينسج حول نفسه أساطير القوة والمنعة والتفوق من باب الحماية والحرب النفسية.
وهو إلى ذلك لا يبرع إلا في قتل المدنيين وترويعهم، بينما ما زال- بعد أكثر من ثمانين يومًا من العدوان الوحشي الذي لم يقف عند أي حد- يلهث دون جدوى خلف تسجيل إنجاز ولو نسبيًا أو موهومًا أو مدّعى في مواجهة المقاومة الفلسطينية.
بل إن توثيق الأخيرة للمواجهات المباشرة بين رجالها، وجنود الاحتلال يظهر الفارق الكبير في الشجاعة والإقدام والمعنويات، بما ينعكس بشكل مباشر على نتيجة هذه الالتحامات التي لا يستفيد الاحتلال فيها من سلاح الجو وتفوقه الميداني في العتاد.
ما يعنيه ذلك أن دولة الاحتلال يمكن هزيمتها، لا سيما إذا ما وُوجهت بقوة/قوى تملك الإرادة والعزيمة والإعداد والتخطيط لذلك. فإذا كانت مقاومة محاصَرة- وبإمكانات بسيطة جدًا، ودون دعم إقليمي- قادرة على هذا الأداء العسكري، فيمكن حينها تخيل ما تستطيعه قوى ودول أخرى.
ومن أهم ما كشفته هذه الحرب أن المجتمع “الإسرائيلي” ليس شعبًا بالمعنى التقليدي في الدول؛ إذ لا يجمعه – رغم الادعاء – تاريخ مشترك، ولا هوية واحدة، وإنما هي شرائح متباينة وأحيانًا متناقضة جُمعت من دول العالم المختلفة، ولم تنجح المؤسسة في صهرها معًا لتخرج شعبًا متجانسًا، فضلًا عن أن يكون له انتماء وقضية تجمعه على شاكلة الفلسطينيين.
وهنا يمكن أن نضيف ما هو معروف وثابت وأعادت تأكيده الحرب الحالية من رفض المحيط دولةَ الاحتلال، على المستوى الشعبي بشكل شبه كامل، والرسمي بشكل جزئي. وبالتالي، فالجنّة التي وُعد بها يهود العالم في فلسطين من حيث الرفاهية والأمن لم تعد قائمة، وقد لا تعود أبدًا، على أقل تقدير من حيث الثقة بالدولة والمؤسسة العسكرية والأمنية.
وعليه، ختامًا؛ فإن الأسس التي قام عليها المشروع الصهيوني في فلسطين، لم تعد قائمة كما كانت سابقًا، حيث اختفى بعضها، وتراجع بعضها، بينما يبقى البعض الآخر غير مضمون على المدى البعيد، ما يعني سقوط المشروع وبقاء مستقبله في مهب الريح.
ولذلك، قد يكون أصدق ما قالته قيادات الاحتلال في هذه الحرب: إنها حرب وجودية فعلًا، وإن مستقبل وجود الاحتلال في المنطقة على المدى البعيد ليس مضمونًا.
وعليه، يحق للفلسطينيين أن يؤمنوا اليوم بأن التحرير لم يعد حُلمًا بعيد المنال، ولا شعارًا عاطفيًا مفرغًا من مضمونه، فضلًا عن أن يكون مستحيلًا، فقد غيّرت حرب “طوفان الأقصى” الكثير.