الحرب البرية في غزة: الدوافع، المدى والمآلات
TRT عربي، 20 تشرين الأول/أكتوبر 2023
بعد الضربة الكبيرة التي تعرضت لها المؤسسة العسكرية والأمنية “الإسرائيلية” يوم السابع من تشرين الاول/أكتوبر الجاري، والتي يصفها الكثيرون هناك بأنها “11 سبتمبر إسرائيل”، تركز تصريحات نتنياهو وحكومة الحرب التي شكلها على ضرورة إطلاق حرب برية في قطع غزة.
الدوافع
في كل العدوانات التي شنها الاحتلال على قطاع غزة قبل ذلك، هدد بشن عملية برية موسعة “للقضاء على حكم حماس” فيه، وهو ما لم يحصل حتى الآن تخوفاً من الخسائر الممكنة بين الجنود من قتلى وجرحى وأسرى، خصوصاً وأن بعض المواجهات المباشرة أوحت بنتائج من هذا القبيل.
اليوم، تُكرِّرُ حكومة نتنياهو الحديث عن ضرورة إنهاء حكم حركة حماس، لكنه لا يبدو الدافع الرئيس لأي توغل بري في قطاع غزة، إذ ثمة دوافع أخرى ذات علاقة مباشرة بالحرب الحالية أكثر حضوراً في المشهد. هناك دافع الانتقام من حركة حماس وقطاع غزة بعد ما تعرضت له المؤسسة العسكرية والأمنية “الإسرائيلية” يوم السابع من الشهر الجاري والذي يبدو أنه سيحفر نفسه عميقاً كأحد أهم مراحل التحول في مسار القضية الفلسطينية والصراع مع الاحتلال. وهناك رسالة السيطرة والقوة التي يحاول نتنياهو أن يقدمها للجبهة الداخلية لتخفيف حدة الانتقادات التي وجهت له والمطالبات باستقالته، على خلفية الاستقطاب الداخلي الحاد الذي كان تسبب به بسبب التعديلات القضائية أولاً ثم مسؤوليته عن مشهد الفشل والعجز في المواجهة مع حركة حماس ثانياً.
وهناك كذلك محاولة إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر البشرية وبدرجة أقل الاقتصادية وفي البنى التحتية، لتشكيل حالة ضغط كبير على المقاومة الفلسطينية في مسار الحرب ثم عندما يحين وقت الوساطات لوقف إطلاق النار ومفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى وما إلى ذلك.
توغل جزئي أم شامل؟
وفق هذه الدوافع، ينظر نتنياهو للعملية البرية كحتمية لا مفر منها، لا سيما وأنه حتى اللحظة ورغم العدد غير المسبوق من الشهداء والتدمير الشامل لغزة لم يستطع كسر حركة حماس وبنيتها العسكرية حيث كان النصيب الأكبر للانتقام “الإسرائيلي” من حظ المدنيين العزل. ومما يدفع نحو هذا الاتجاه رغبة المؤسسة العسكرية والأمنية بالتغطية على فشلها الذريع بـ “صورة نصر” ولو مدّعاة من جهة، والدعم غير المسبوق وغير المشروط من دول غربية على رأسها الولا يات المتحدة الأمريكية التي بدت وكأنها تدير الحرب وليس فقط تدعمها من جهة ثانية.
وعليه، ليس السؤال ما إذا كانت “إسرائيل” ستشن عملية برية أم لا، وإنما هو سؤال التوقيت الذي يشغل الكثيرين، فضلاً عن السؤال الأهم حول مدى العملية المتوقعة أتكون شاملة بهدف إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل أم جزئية تحقق بعض الأهداف في مواجهة حماس والمقاومة الفلسطينية.
ثمة عوامل عديدة تدخل في صلب عملية صنع القرار بالنسبة لنتنياهو في مقدمتها أهداف العملية وبنك الأهداف في غزة ومدى استعداد الجيش وقدرات المقاومة الفلسطينية والموقف الدولي وخطط اليوم التالي للعملية.
يكرر الاحتلال بين يدي كل عدوان له على قطاع غزة نفس الأهداف الكبيرة تقريباً، وهي القضاء على حركة حماس وتقويض حكمها في غزة ومنع إطلاق الصواريخ منها فضلاً عن تحرير الأسرى في يد المقاومة. نفس هذه الأهداف، بنبرة أعلى، يكررها نتنياهو اليوم وهو يستعد للعملية البرية، مع بعض المتغيرات المتناسبة مع حجم صدمة السابع من أكتوبر وتداعياته، مثل تحويل “تحرير الأسرى” لـ “التعامل مع ملف الرهائن”.
بيد أن فكرة القضاء على حركة حماس أو وقف المقاومة بالكامل يبدو ادعاءً أكثر منه هدفاً حقيقياً لمواجهة عسكرية، فما كان صعباً في السابق يبدو الآن أصعب بمراحل، ما يعني استمرار المقاومة وإطلاق الصواريخ والاضطرار عاجلاً أم آجلاً لمقاربة ملف الأسرى عبر عملية تفاوض ثم صفقة تبادل كما حصل في صفقة “الوفاء للأحرار” عام 2011 وما قبلها.
وأما بنك الأهداف التي ستهاجمها قوات الاحتلال داخل القطاع فهو أصلاً في تآكل منذ سنوات طويلة، وبات في وضع أكثر تعقيداً وغير موثوق به بعد الفشل الاستخباري في كشف عملية “طوفان الأقصى” وسيطرة حماس على معلومات ووثائق مهمة في المواجهة الحالية وفق بعض التقارير. وينسحب نفس التقدير على قدرات قوات الاحتلال في أي مواجهة برية مباشرة في غزة، في ظل تقارير عن رفض التجنيد والخدمة في غزة ومعارضة المؤسسة العسكرية لنتنياهو.
وأما قدرات المقاومة الفلسطينية فهي العائق الأكبر حتى اللحظة لأي توغل بري، إذ تؤكد الأخيرة كامل استعداداتها لهذا الأمر وتحذر من أنه سينتهي بهزيمة مذلة لـ “إسرائيل”، مقدمة بين يدي ذلك نماذج من المواجهات المباشرة يوم السابع من أكتوبر وكذلك من مواجهات سابقة، فضلاً عما يعرفه الاحتلال من تخندقها واستعداداتها وشبكة الأنفاق التي أنشأتها لهذا الغرض.
وأخيراً، ما زال نتنياهو لا يملك تصوراً واضحاً عن خطة اليوم التالي للعملية، وهل يمكن أن يعاد احتلال غزة بالكامل وما سيترتب على ذلك من تحديات أمنية في المقام الأول، وإلى أي مدى يمكن أن يفيد التوغل البري إن كان جزئياً، وكيف سيواجه الاحتلال تحديات ما بعد المعركة وطريقة إدارة القطاع وغيرها من الأسئلة غير محدودة العدد بخصوص المستقبل.
المآلات
يؤكد كل ما سبق أن أي توغل بري مهما كانت حدوده لن يكون نزهة لقوات الاحتلال وأنه قد يأتي بنتائج عكسية لما أريد منه، لا سيما على صعيد أعداد القتلى والأسرى من جيش الاحتلال، رغم أن الخسائر الفلسطينية من المدنيين والمقاومين ستكون أكبر كذلك. وهو ما يعني أن ما يحاول نتنياهو تجنبه، وهو السخط الشعبي والخسارة السياسية، قد يتعزز أكثر بعد المواجهة.
ولذلك، تأخرت العملية البرية عما هددت به الحكومة “الإسرائيلية” السابقة وكذلك حكومة الحرب التي تشكلت مؤخراً. يفسر ذلك أيضاً استمرار استهداف المدنيين وما يمكن أن يعزز صمودهم من بنية تحتية ومستشفيات ومخابز وأماكن إيواء النازحين، وهو ما أسماه بعض العسكريين “الإسرائيليين” خياراً آخر في معرض حديثهم عن تحديات العملية البرية. بمعنى أن “إسرائيل” قد تؤجل كثيراً العملية البرية وتستمر في تحويل غزة إلى مكان لا يمكن العيش فيه مستغلة الدعم غير المسبوق وغير المحدود وغير المشروط للولايات المتحدة الأمريكية (بما في ذلك ترديد بايدن بروباغندا الاحتلال التي ثبت كذبها) بحيث تدفع الفصائل الفلسطينية لطلب وقف إطلاق النار و/أو المدنيين للخروج من غزة نحو مصر.
وحين يعمد الاحتلال لعملية برية فإن توغلاً جزئياً ومحاولة اقتناص بعض الأهداف التي يمكن تسويقها للداخل “الإسرائيلي”، مثل اغتيال شخصيات وازنة في حماس وذراعها العسكرية أو القدرة على احتلال مناطق من القطاع، سيكون مرجحاً على عملية إعادة احتلال القطاع بالكامل.
ما دون ذلك، فإن أي توغل بري لقوات الاحتلال داخل قطاع غزة من شأنه أن يزيد بشكل ملحوظ من عدّاد الدم في صفوف الفلسطينين، وكذلك أن يعمّق من تداعيات السابع من أكتوبر على المؤسسة العسكرية والأمنية “الإسرائيلية” من حيث النتائج المباشرة للمواجهات من قتلى وأسرى وكذلك ما يتعلق بقوة الردع على المدى البعيد.
يعني ذلك، من جهة أخرى، أن التوغل البري وإن أفاد نتنياهو مرحلياً من حيث إشباع غريزة الانتقام أو إعطاء صورة قوة للداخل الإسرائيلي أو إيقاع خسائر أكبر بين الفلسطينيين، إلا أنه سيعزز على المدى البعيد الانعكاسات الاستراتيجية لمعركة طوفان الأقصى عليه وسيفتح الباب على مواجهات أخرى مستقبلية قد تكون أشد شراسة. وفي نهاية المطاف لن يتحقق له ما يريد من الناحية السياسية بل قد يعجل ذلك بختم مسيرته السياسية على رأس الحكومة كما حصل مع إيهود باراك سابقاً.