فنلندا إلى الناتو: المشكلة في السويد لا تركيا
TRT عربي، 1 نيسان/أبريل 2023
وافقت لجنة السياسة الخارجية في المجلس التركي الوطني الكبير (البرلمان) في الثالث والعشرين من الشهر الجاري على طلب عضوية فنلندا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، محوّلة الملف مرة أخرى لرئاسة البرلمان بهدف عرضه على هيئته العمومية للنقاش والإقرار. وفي ظل حيازة تحالف الجمهور المكوّن من حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الحركة القومية على أغلبية البرلمان وعدم ممانعة بعض أحزاب المعارضة، يتوقع أن يمر القرار في البرلمان بسهولة ويسر.
كما وافق البرلمان المجري بعد ذلك بأيام على عضوية فنلندا في الناتو، بعد أن كانت المجر مع تركيا الدولتين الوحيدتين من أعضاء الناتو اللتين لهما تحفظات على ضم كل من السويد وفنلندا للحلف. وهكذا، تصبح عضوية فنلندا في الناتو تحصيل حاصل ومجرد مسألة وقت، وتكون بذلك قد أمّنت نفسها في ظل تطورات الحرب الروسية – الأوكرانية.
لكن فنلندا ليست الكاسب الوحيد في هذا المسار، بل تبدو تركيا كذلك ضمن الكاسبين. فقد كانت الأخيرة تعرضت لضغوط من الناتو الذي أراد لانضمام السويد وفنلندا له أن يكون سريعاً، بل ولحملة تشويه من بعض الأطراف بادعاء أنها ضد سياسة توسع الناتو وترفض عضوية الدولتين فيه من باب تأييد روسيا في الحرب.
أكدت تركيا مراراً أنها مع سياسة توسع الناتو، وقال أردوغان إنه يرى في ذلك “دعماً للاستقرار والسلام في العالم”[i]، وذكّرت بموافقاتها السابقة على انضمام دول أخرى، وبالتالي أن الرفض ليس على المبدأ وإنما هي تحفظات تتعلق بالبلدين المذكورين على وجه التحديد.
كانت السردية التركية واضحة ومعلنة؛ الناتو حلف أمني في المقام الأول ومن أهم أولوياته مكافحة الإرهاب، فلا يستقيم أن يضم لعضويته دولاً تدعم منظمات إرهابية تضر بأعضاء فيه أو تغض الطرف عنها، بينما من المفروض أن تكون عوناً للدول الأخرى العضوة في الحلف.
وكانت مآخذ أنقرة على كل من ستوكهولم وهلسنكي تتلخص في التعامل مع منظمات محسوبة على منظمة العمال الكردستاني الإرهابية وامتداداتها السورية (باسمها الأخير قوات سوريا الديمقراطية) ومنظمة فيتو التابعة لفتح الله كولن (المتهمة بتنفيذ الانقلاب الفاشل عام 2016)، والسماح لها بالعمل والدعاية وتحشيد الأنصار وجمع الأموال، فضلاً عن حظر غير معلن لبيع السلاح لتركيا على خلفية عملياتها العسكرية في سوريا.
خاضت تركيا مع الدولتين عدة جولات من المفاوضات ووقعت معهما برعاية الناتو في حزيران/يونيو الفائت في مدريد مذكرة تفاهم نصت على دعم السويد وفنلندا بصفتهما عضوين في الحلف مستقبلاً “لتركيا في مواجهة جميع التهديدات لأمنها القومي” وعدم تقديمهما أي دعم لوحدات الحماية/حزب الاتحاد الديمقراطي (الامتدادات السورية للكردستاني) وما يعرف بمنظمة “فيتو” الإرهابية.
وإضافة لتفاعل الدولتين “بسرعة وبكافة الأبعاد مع مطالب تركيا المتعلقة بإعادة المتهمين في قضايا الإرهاب أو إبعادهم في ضوء المعلومات والأدلة التي ستقدمها تركيا ووفق الاتفاقية الأوروبية الخاصة بتسليم المجرمين”، فقد أقرت الدول الثلاث بعدم وجود أي نوع من أنواع حظر بيع السلاح فيما بينها.
وتعهدت الدولتان بمنع أنشطة العمال الكردستاني والمنظمات المرتبطة به أو التي تعمل كواجهة له وكذلك الأشخاص الذين يعملون أو لهم علاقة بها، بما في ذلك أنشطة جمع الأموال وتحشيد الأنصار والدعاية. وتعهدت كل من ستوكهولم وهلسنكي بمزيد من الحوار والتعاون مع أنقرة في هذا الإطار، وكذلك باتخاذ خطوات عملية بما في ذلك تعديلات قانونية لمزيد من التشديد على الجرائم المتعلقة بالإرهاب.
وفيما تلا توقيع مذكرة التفاهم في مدريد، أبدت فنلندا تعاوناً أكبر مع تركيا وسلمت بعض المطلوبين للقضاء التركي، بينما ماطلت السويد بذريعة أن ما هو مطلوب منها متعذر أو يتطلب تشريعات أو تعديلات دستورية ستحتاج وقتاً وقد لا تكون ممكنة، فضلاً عن سماحها لأحد المتطرفين بحرق نسخة من المصحف الشريف أمام السفارة التركية وتصنيف ذلك تحت حرية الرأي والتعبير وإن كانت قالت إنها لا تصوّب الفعل ولا تشجع عليه.
وهنا، تقدمت أنقرة بمقترح فصل المسارين عن بعضهما البعض بحيث تقر عضوية فنلندا في الناتو وترجئ ملف السويد لوقت لاحق بحيث تكون الأخيرة قد نفذت ما يليها من مسؤوليات في مذكرة التفاهم. لكن هذا المقترح رفض من قبل الدولتين وكذلك من قبل الناتو الذي كان ما زال يصر على لسان أمينه العام ينس ستولتنبيرغ على أن السويد وفنلندا تفاعلتا بشكل إيجابي مع المطالب التركية وأنه على أنقرة الموافقة سريعاً على انضمامهما للحلف.
لم يكن الوقت يسير لصالح الدولتين. فرغم الضغوط التي مورست عليها، ثبتت أنقرة على موقفها، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في البلاد، لم يعد هناك فسحة زمنية كبيرة لمسار من جهة، وتصاعد وتيرة الحرب الروسية – الأوكرانية واحتمالات توسعها من جهة ثانية.
وهكذا، وافقت فنلندا على مقترح تركيا بالفصل بين ملفها وملف السويد وزار رئيسها ساولي نينيستو أنقرة والتقى بالرئيس أردوغان الذي أكد على أن بلاده عند موقفها، وإنها مع استجابة هلسنكي للمطالب التركية وإيفائها بالتزاماتها في مذكرة التفاهم ستبدأ إجراءات قبولها في الناتو، وهو ما قابله الرئيس الفنلندي بالقبول والاستحسان.
الآن، مع الخطوات التركية والموافقة المجرية، يمكن القول إن فنلندا باتت ضمن حلف الناتو بانتظار بعض الخطوات الإجرائية، بينما ما تزال السويد تنتظر موافقة الدولتين، تركيا والمجر.
وبالتالي، فقد أثبتت تركيا مرة أخرى على أنها ليست ضد سياسة توسيع الناتو بل معها نظرياً وتاريخياً وعملياً في الوقت الحاضر، ما يسقط الادعاءات بحقها في هذا الخصوص. وبالتالي أكدت تركيا على أن المشكلة ليست لديها وإنما لدى السويد التي عليها الإيفاء بالتزاماتها.
كما تجنبت أنقرة بذلك أي توتر محتمل مع الحلف والولايات المتحدة على وجه التحديد، وهو أمر قد يكون له انعكاسات إيجابية على صعيد الملفات الخلافية والعالقة مع واشنطن وفي مقدمتها صفقة مقاتلات F16.
كما أن تركيا تلقي بذلك بالكرة في ملعب السويد مع ضيق المساحة الزمنية المتاحة قبل الانتخابات المقبلة، ما يزيد من الضغوط على الأخيرة لتفي بالتزاماتها، ويخففها على تركيا.
الأهم ربما، أن موافقة تركيا عضدت من موقفها وقوّت سرديتها، فهي قد أثبتت في مذكرة التفاهم الموقعة في مدريد برعاية الناتو ثم في المفاوضات والحوارات المباشرة مع الدولتين حساسيتها الشديدة تجاه الإرهاب والمنظمات المتورطة فيه من جهة والعلاقة المباشرة وربما العضوية بين قوات سوريا الديمقراطية/وحدات حماية الشعب ومنظمة الكردستاني الإرهابية من جهة ثانية، وهو الملف الخلافي الأول بينها وبين الولايات المتحدة وبعض الأعضاء الآخرين في الحلف.
وفي الخلاصة، لئن كانت موافقة البرلمان التركي المنتظرة مع موافقة المجر الحاصلة على عضوية فنلندا في حلف الناتو تعد مكسباً كبيراً للأخيرة، إلا أن المكاسب التركية لا تقل عنها، لا سيما وأنها ترتبط بثباتها على موقفها من جهة وتخفيف الضغوط عليها من جهة ثانية ومنح مصداقية إضافية لسرديتها من جهة ثالثة. فضلاً عن الانعكاسات الإيجابية المحتملة أو المنتظرة على علاقاتها مع الحلف والقوة الأولى فيه أي الولايات المتحدة، والتي يصدف أن خلافها الأساس مع أنقرة يدور حول دعمها للامتدادات السورية للكردستاني.
[i] https://www.birgun.net/haber/erdogan-nato-da-genislemeyi-hep-savunduk-savunuyoruz-378961