مكاسب تركيا من اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية
TRT عربي
باحتفال مهيب في قصر دولما بهجة التاريخي، وبحضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وقع في مدينة إسطنبول في الـ 21 من تموز/يوليو الجاري اتفاق بين روسيا وأوكرانيا بوساطة تركية لإنهاء أزمة الحبوب التي حذرت عدة تقارير من تسببها بمجاعة عالمية.
ما وقع في إسطنبول كان اتفاقين منفصلين ولكن متلازمين، الأول لتصدير الحبوب الأوكرانية المتكدسة منذ شهور من ثلاثة موانئ عبر ممر مائي، وقعته أوكرانيا مع كل من تركيا والأمم المتحدة بشكل منفرد. ويتضمن الاتفاق إنشاء مركز رباعي مشترك (تركيا والأمم المتحدة وروسيا وأوكرانيا) في مدينة إسطنبول للقيادة والتنسيق. بينما يتضمن الاتفاق الثاني، الذي وقعته روسيا بشكل منفرد كذلك مع تركيا والأمم المتحدة، إعفاء الأسمدة والمنتجات الزراعية الروسية من العقوبات الأمريكية والغربية وبالتالي تسهيل تصديرها وبيعها.
وصلت المفاوضات الشاقة التي استمرت زهاء ثلاثة أشهر لمرحلة التوقيع على الاتفاق بفضل جهود الوساطة التركية إضافة للرعاية الأممية. ذلك أن مواقف تركيا منذ بداية الأزمة بين موسكو وكييف ثم الحرب، بما في ذلك الحياد الإيجابي وعدم الاصطفاف الكامل، وعدم المشاركة في العقوبات على روسيا، وتجنب الدعم العسكري المباشر لأوكرانيا أسوة بالغرب، والإبقاء على العلاقات الدبلوماسية مع طرفَيْ الحرب، والوساطة السياسية التي بادرت لها، أهلتها للعب هذا الدور.
كما أن أنقرة اجادت استخدام أوراق القوة والتميز التي رشحتها لهذه الوساطة وإدارة التفاوض بشكل ملموس، وفي مقدمتها موقعها الذي يحول دون التوصل لاتفاق يتجاهل دوراً حقيقياً لها فيه، وتحكمها بالمضايق، إضافة لعلاقاتها الجيدة مع الجانبين، وعضويتها في حلف الناتو، ووساطتها السياسية السابقة وخبرتها فيها.
بعد توقيع الاتفاق، أعرب الرئيس التركي عن أمله في أن يكون خطوة أولى يبنى عليها لاحقاً لتفعيل الوساطة السياسية التركية بهدف الوصول لوقف إطلاق النار ثم هدنة طويلة الأمد ثم اتفاق سلام شامل بين البلدين.
ولعل أحد أهم عوامل نجاح الاتفاق مرهون بالمكاسب التي تتوخاها كل الأطراف منه، إذ أنه بني بالأساس على معادلة ربح الجميع ولا يبدو أن هناك – في المجمل – خاسر منه. وإذا كانت المكاسب الاقتصادية (وكذلك السياسية) لكل من أوكرانيا وروسيا ثم باقي العالم واضحة للعيان، فإن المكاسب التركية من الاتفاق تحتاج نظرة أقرب.
ثمة بعض التقارير التي تتحدث عن حصول تركيا على أسعار تفضيلية للحبوب وباقي المنتجات باعتبار وساطتها ودورها في تنفيذ الاتفاق فضلاً عن قربها الجغرافي، لكن ذلك – إن صح – شيء هامشي جداً مقابل المكاسب الجوهرية التي حققتها.
ففي المقام الأول، يعد الاتفاق إنجازاً دبلوماسياً كبيراً لأنقرة، فهو اتفاق حال دون حصول مجاعة عالمية أو على أقل تقدير استمرار ارتفاع أسعار الحبوب والمواد الزراعية، إذ يميل كاتب هذه السطور لأن تكون التحذيرات من مجاعة عالمية مبالغاً بها لأسباب مفهومة.
هذا الإنجاز، الذي وصفه غوتيريش بالتاريخي وغير المسبوق، يضفي زخماً للدبلوماسية التركية ويذكّر بسنوات طويلة – قبل 2011 – اشتهرت فيها تركيا كوسيط في عدة أزمات إقليمية وبين عدة أطراف متباعدة. كما أن الإنجاز يحمل بُعداً إضافياً مع تبني أنقرة منذ سنتين فكرة الحلول الدبلوماسية للأزمة بإطلاقها “منتدى أنطاليا الدبلوماسي” الذي نظمت مؤخراً نسخته الثانية.
وثانياً تعوّل تركيا على أن يدفع هذا الاتفاق نحو تجديد وتنشيط وساطتها السياسية بين موسكو وكييف. هنا، تراهن أنقرة على النموذج الذي نجح في مفاوضات أزمة الحبوب، وهو كونها وسيطاً جادّاً وموثوقاً من الجانبين، والرعاية الأممية، ورغبة الطرفين في التوصل لاتفاق، إضافة لدعم الأطراف الثالثة وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية. وترى تركيا أن هذا النموذج قابل للتكرار فيما يتعلق بوقف الحرب بين البلدين الجارين لها، إذ أن الحرب “ستحسم في نهاية المطاف بالجلوس للطاولة والتوصل لحل سياسي” على ما قال أردوغان.
ومما يشجع على ذلك أن الحرب طالت دون أفق بنهايتها ولا احتمالية كبيرة لانتصار طرف على الآخر، ما يعني أن استدامتها لن تؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر لدى الجانبين على جميع الصعد.
كما أن الجهود التي كانت أنقرة بذلتها بين الجانبين قد أنتجت لقاءً مباشراً بين وزيري خارجية البلدين في أنطاليا، كما أن التفاوض بين البلدين وصل لتحديد ستة بنود تشكل اتفاقاً محتملاً بين الجانبين أربعة منها وافق عليها الجانبان وفق ما رشح، ما يعني أن أي استئناف للوساطة التركية لن يعني البدء من الصفر وإنما البناء على ما سبق.
وثالثاً، فإن جهود تركيا في الوساطة ستساهم في تحسين علاقاتها بمختلف الأطراف وخصوصاً روسيا وأوكرانيا، وهو بعد له أهميته فيما يتعلق بروسيا تحديداً، لا سيما على هامش القضايا ذات الاهتمام المشترك والتي يؤثر الموقف الروسي فيها بمصالح تركيا بأشكال مباشرة وغير مباشرة، وفي مقدمتها العملية التي تلوح بها في الشمال السوري.
وينبغي هنا ملاحظة أن الاتفاق يعطي أنقرة نفوذاً غير مباشر على كل من روسيا وأوكرانيا، حيث أن مركز التنسيق والقيادة المعني بعمليات المتابعة والرقابة والتفتيش سيكون في مدينة إسطنبول. كما أن تركيا كوسيط في الاتفاق الموقع سيكون عليها الإشارة لأي طرف ينتهك الاتفاق أو يخرقه أو يعيق تنفيذه. وأخيراً، فإن الاتفاق يلحظ إمكانية “اللجوء لطرف ثالث” لدى حصول اختلاف في التفسير لدى تنفيذ الاتفاق، والطرف الأرجح لهذا الدور ستكون تركيا لما سبق تفصيله من أسباب وعوامل.
ورابعاً وأخيراً، فإن هذا الإنجاز لتركيا يزيد من أهميتها وقيمة الأدوار التي تلعبها وأوراق قوتها في التعامل والتفاوض مع الغرب عموماً وواشنطن على وجه الخصوص. وهو أمر يضاف لعناصر القوة التركية إزار الغرب على هامش الحرب الروسية – الأوكرانية بما في ذلك امتلاك قرار المضايق، ووقف استخدام الطائرات الروسية لأجوائها، والوساطة، والعلاقات الجيدة مع طرفَيْ الحرب.
هذا المتغير المهم قرأه حلفاء تركيا التقليديون في الغرب، وأقصد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، بشكل واضح وبنوا عليه. فزيارة رئيس الوزراء اليوناني لتركيا قبل أشهر ولقائه مع أردوغان لا يمكن النظر إليها كتصرف فردي من أثينا وإنما خطوة أوروبية/أطلسية بدافع من إدراك الأدوار التي يمكن لتركيا أن تلعبها في مواجهة التهديدات الأمنية المستجدة للقارة الأوروبية بعد الحرب الروسية – الأوكرانية.
ختاماً، ورغم أن هناك تحديات كبيرة تحيط بتنفيذ الاتفاق، بالأساس بسبب استمرار حالة الحرب بين روسيا وأوكرانيا، إلا أن ذلك لا يقلل من حجم إنجاز تركيا ومكاسبها، والتي ينبغي أن يضاف لها أنه سيجعل الدبلوماسية التركية علامة مسجلة مرة أخرى للتوسط في الأزمات الإقليمية والدولية والمساهمة في حلها، وهو رأس مال معنوي وسياسي بالغ الأهمية بالنسبة لأنقرة.