ما الذي غيره الانقلاب الفاشل في تركيا؟

ما الذي غيره الانقلاب الفاشل في تركيا؟

الجزيرة نت

أحيت تركيا في الخامس عشر من تموز/يوليو الجاري الذكرى الخامسة للمحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016، وهو اليوم الذي حولته لاحقاً إلى “يوم الديمقراطية والوحدة الوطنية” وأعلنته يوماً وطنياً وإجازة رسمية تعبيراً عن أهميته واستثنائيته.

 

انقلاب مختلف

وتنبع أهمية الحدث من اختلافه عن الانقلابات السابقة من جهة، وما ساهم به من تغيرات مهمة داخلياً وخارجياً من جهة أخرى. إذ يختلف انقلاب 2016 عن سابقيه الأربعة من حيث الجهة التي نفذته وهي الكيان الموازي أو جماعة كولن وليس قيادة المؤسسة العسكرية أو التيار الكمالي فيها، ودمويته ليلة تنفيذه إذ ذهب ضحيته في تلك الليلة أكثر من 250 مواطناً تركياً، وبالتأكيد فشله مقارنة مع نجاح سابقيه، وكذلك نزول أعداد كبيرة من المواطنين للمشاركة بشكل مباشر في دحضه إلى جانب المؤسسات الأمنية والعسكرية التي واجهت الانقلابيين.

كما أن فشل الانقلاب ساهم، مع عوامل أخرى، في تغيرات مهمة في تركيا، مثل الانتقال للنظام الرئاسي، واعتماد سياستها الخارجية على القوة الصلبة أكثر، وانخراطها في الأزمات الإقليمية بشكل مباشر، إضافة للمتغير الأهم وهو تصعيبه احتمالية حدوث انقلاب آخر في المستقبل – القريب على أقل تقدير – وتضييقه الهوامش أمامه.

 

آخر الانقلابات؟

قبل 2016، عرفت تركيا أربعة انقلابات مباشرة إضافة لعدة مرات تدخل فيها الجيش في الحياة السياسية في البلاد. وقد تمت تلك الانقلابات ظاهرياً بشكل “دستوري” إذ كان الدستور يمنح المؤسسة العسكرية صلاحيات ومهمات تتعلق بـ”حماية مبادئ الجمهورية” وخصوصاً العلمانية، وهي الذريعة التي استخدمتها تلك الانقلابات، وسهّل كلٌّ منها مهمة الانقلاب الذي تبعه.

وعلى عكس ذلك، يمكن القول إن المحاولة الفاشلة في 2016 قد ضيّقت إلى حد كبير جداً إمكانية حصول انقلاب آخر في المدى المنظور، لأسباب عديدة. ففي المقام الأول، كان ذلك الانقلاب الأول الذي تشارك جماهير الشعب ولو جزئياً في إسقاطه، مقدمة مئات الشهداء في سبيل ذلك، إضافة لمشاركة جهازي الاستخبارات والشرطة وبعض مجموعات من  الجيش، ما يعني أن الكلفة – وخصوصاً البشرية – لأي انقلاب قادم ستكون مرتفعة جداً، ما سيزيد من احتمالية فشله وبالتالي يدفع للتفكير ألف مرة قبل الإقدام عليه.

من جهة أخرى، فقد حدّت الإصلاحات الكثيرة التي قام بها حزب العدالة والتنمية منذ تسلمه الحكم من تغول المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية في البلاد وأخضعتها لقرار القيادة المنتخبة، بما في ذلك تعديل صلاحياتها في الدستور وحصرها بمواجهة الأخطار الخارجية، وتعديل بنية وصلاحيات مجلس الأمن القومي (أداة الجيش في السياسة) الذي بات هيئة استشارية ذا قرارات غير ملزمة، وكذلك بنية مجلس الشورى العسكري الأعلى الذي أصبح ذا أغلبية مدنية.

يضاف لذلك المتغيرات التي طرأت على الثقافة السائدة داخل المؤسسة العسكرية بحيث باتت أكثر تقبلاً لدين الشعب وثقافته، بما في ذلك افتتاح مساجد وإقامة الصلوات في الثكنات العسكرية، بعد أن كان ذلك سابقاً سبباً للطرد من الجيش. وكذلك غياب أي مسوغ أو ذريعة للانقلاب في السنوات الأخيرة، مثل الانسداد السياسي أو الانهيار الاقتصادي أو الاحتراب الداخلي.

لكن كل ذلك لا يعني أن عدم حدوث انقلاب في المستقبل مضمون %100، فالسياسة لا تعرف الثبات وإنما هي في تغير دائم، ودائماً ما يكون هناك ثغرات قد يُنفذ منها. فالحكومة تقول إن مكافحة تنظيم كولن لم تصل لغايتها المنشودة بعد، فضلاً عن استمرار رهان الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية عليه. وعقيدة الجيش الوصائية لم تندثر ولا يتوقع لها ذلك في أقل من 20 عاماً، كما أن الذين فُصِلوا من المؤسسة العسكرية من المحسوبين على كولن تركوا أماكنهم لضباط من تيارات أخرى لا سيما الكماليين الذين نفذ محسوبون عليهم جميعَ الانقلابات السابقة.

 

 

متغيرات مهمة

دعا العدالة والتنمية في 2015 للانتقال للنظام الرئاسي، إلا أن الناخب لم يمنحه الأغلبية البرلمانية اللازمة لذلك. بيد أن الانقلاب الفاشل وما تلاه من تطورات دفع لتحالف بين الحزب الحاكم وحزب الحركة القومية، وبهذا التحالف مُرِّر القرار في البرلمان وأقِرَّ في استفتاء شعبي في 2017، قبل أن يبدأ سريانه مع انتخابات عام 2018. ويعد كثيرون الانتقال للنظام الرئاسي التغيير الأكبر في الجمهورية التركية منذ تأسيسها في 1923، وإرهاصاً لمتغيرات أكبر تحت عنوان “الجمهورية الثانية”، فضلاً عن أنه كان عاملاً أساسياً في المتغيرات الأخرى التي حدثت بعد الانقلاب الفاشل والتي سيلي ذكرُها.

ومن المتغيرات المهمة تحول السياسة الخارجية التركية إلى سياسة أكثر نشاطاً ومبادرة، بل وانخراطاً في عدد كبير من الأزمات والقضايا الإقليمية والدولية. فبعد أن كانت الحرب الكورية ثم التدخل في قبرص عام 1974 مثالين يُذكران كاستثناء على انكفاء أنقرة على نفسها، باتت الأخيرة متواجدة اليوم بأشكال مباشرة وغير مباشرة في عدة بلاد ونزاعات في مقدمتها سوريا والعراق وليبيا وجنوب القوقاز وشرق المتوسط.

ومن الأمور التي ساهمت في ذلك، والتي كانت إلى حد كبير جداً نتاج الانقلاب الفاشل والدروس المستخلصة منه، تحوُّلُ السياسة الخارجية التركية من الاعتماد بشكل شبه حصري على القوة الناعمة إلى التبني المتزايد للقوة الصلبة. ويتبدى ذلك بشكل واضح في العمليات العسكرية خارج الحدود في كل من سوريا (عمليات درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام، درع الربيع)، والعراق (سلسلة عمليات “المخلب”)، وليبيا دعماً لحكومة الوفاق.

كما تُذكر هنا القواعد العسكرية خارج الحدود في كل من العراق والصومال وقطر، وأخرى محتملة مستقبلاً في كل من أذربيجان وليبيا. فضلاً عن النمو المتسارع لقطاع الصناعات العسكرية التركية في السنوات القليلة الأخيرة، بحيث باتت العمود الفقاري للأسلحة التركية المستخدمة في العمليات الخارجية، ونقلت تركيا إلى مصاف الدول المصدرة للسلاح لا سيما الطائرات بدون طيار.

 

خاتمة

في الخلاصة، تُعَدُّ المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016 محطة فارقة في تاريخ تركيا الحديث وانعطافة مهمة ساهمت في الدفع نحو متغيرات مهمة في البلاد وسياساتها الداخلية والخارجية، بغض النظر عن كيفية تقييم بعضها سلباً او إيجاباً.

لكن المكسب الأكبر من الانقلاب الفاشل أنه قلل من احتمالات الانقلابات المستقبلية إلى حد كبير، بما يمكن أن يحمي الحياة السياسية والتجربة الديمقراطية فيها، ويفتح أبواب الإصلاح والتغيير للأفضل إن وجدت الإرادة لذلك.

يزيد كل ذلك من أهمية معالجة الأزمات التي قد تتخذ ذريعة من طرف ما في المستقبل للتدخل في الحياة السياسية بعيداً عن صندوق الانتخابات وقرار الشعب. ومما لا بد منه في هذا الإطار ترسيخُ الثقافة الرافضة للانقلابات بين النخب السياسية والشعب على حد سواء، ولعل ذلك أحد أهم أسباب استمرار إحياء ذكرى الانقلاب الفاشل بنفس الزخم سنوياً. وكذلك تمتين الوحدة الداخلية وخفض سويَّة الاستقطاب في البلاد، وتعزيز الحريات والعودة لمسار الإصلاحات، ومعالجة الأزمات القائمة (لا سيما الاقتصادية) ومنع حدوث أي أزمات جديدة.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

ذكرى 15 تموز: هل ولى عهد الانقلابات في تركيا؟

المقالة التالية

رسائل طالبان إلى تركيا

المنشورات ذات الصلة