أزمة القوقاز والتنافس التركي- الروسي
عربي 21
لهذه الأسباب، ولما تعرضت له القوات الأرمينية من خسائر عبّر عنها رئيس وزرائها نيكول باشينيان، يبدو الاتفاق الحالي أكثر قدرة على الصمود من الاتفاقات السابقة، وإن كان ما زال يحمل بين طياته احتمالات الانهيار أو على الأقل بعض تعقيدات التطبيق.
في حسابات الربح والخسارة، ليس من شك أن أذربيجان قد حققت إنجازاً عسكرياً كبيراً وكبّدت أرمينيا خسارة فادحة، وقد حررت بالفعل جزءاً مهماً من أراضيها وما زالت تسعى لتحرير الباقي من خلال الاتفاقات والتفاوض. صحيح أن الاتفاق فيه بعض المواد غير الواضحة، وأنه قد يحصل تأخير أو عرقلة لتسليم بعض المناطق، فضلاً عن المآلات البعيدة غير الواضحة تماماً للوضع الإداري لإقليم ناغورنو قره باغ، لكن باكو قدمت نموذجاً غيرَ مشاهد كثيراً مؤخراً في حل النزاعات.
في المقابل، لا تحتاج خسارة يريفان لكثير تدليل، فقد اعترف بها رئيس وزرائها بشكل مباشر، حيث وصف الاتفاق بأنه “قرار صعب ومؤلم” اضطر له بسبب الخسائر العسكرية والبشرية. كما أن بعض التقارير تحدثت عن أرقام كبيرة من القتلى الأرمينيين، فضلاً عن ضعف التسليح وثغرات عسكرية أخرى كثيرة، بما ينبئ بتداعيات داخلية على باشينيان نفسه مستقبلاً.
تقف تركيا كذلك في صفوف الكاسبين، فقد انتصرت الدولة التي دعمتها بشكل معلن على غريمتهما التقليدية، وأثبتت تفوق أسلحتها لا سيما المسيّرات، وفتحت الأزمة لها الطريق لزيادة نفوذها في منطقة القوقاز بالغة الأهمية الاستراتيجية والحساسية، فضلاً عن توطيد علاقاتها أكثر فأكثر مع باكو، إضافة لاحتمالية نشر قوات تابعة لها في أذربيجان وهو تطور – إن حصل – يعدُّ مكسباً استراتيبجياً، خصوصاً وأن بعض المصادر تشير لرغبة أنقرة في إنشاء قاعدة عسكرية لها هناك.
مقابل كل ذلك، قد يكون من المفاجئ للكثيرين القول إن روسيا كانت ضمن أكبر الكاسبين كذلك. التقييمات الحدّية المتسرعة تقول إن روسيا خاسرة بخسارة حليفتها، كما أن تركيا كاسبة بانتصار حليفتها، بيد أن هذه النظرة السطحية لا تتوافق وتعقيدات الصراع وتفاصيل جولته الأخيرة، كما أنها مبنية على افتراضات غير صحيحة في الأصل.
في تقييم نتائج الجولة بالنسبة لروسيا، ينبغي أخذ أهداف الأخيرة منها في عين الاعتبار. ولذلك يمكن القول إن روسيا بالاتفاق الأخير الذي رعته – وخصوصاً توقيته – قد منعت عن أرمينيا هزيمة كاملة ومذلة وحالت دون استكمال أذربيجان لانتصاراتها، وبالتالي أتى الإعلان عن نهاية التصعيد من خلال روسيا لا أذربيجان. أكثر من ذلك، فقد كان واضحاً أن موسكو تريد من خلال الأزمة الحالية عقاب باشينيان، والضغط باتجاه تغيير سياسته و/أو تغييره هو، ولذلك كان ضوؤها الأخضر لأذربيجان وعدم تدخلها إلا بعض تحرير شوشة الذي كان يعني نهاية المعركة عملياً.
هذا الهدف تحديداً يبدو أنه قد تحقق لموسكو، حيث انطلقت تظاهرات في أرمينيا تحتج على “الاتفاق المذل” ومحمّلة باشينيان المسؤولية عن الهزيمة. وإضافة إلى هذا العامل الجماهيري المرشح للاتساع، فقد أفشلت السلطات محاولة انقلاب واغتيال لباشينيان نفسه، وهما تطوران يصبان في مصلحة موسكو بغض النظر أكان لها يد فيهما أم كانا نتائج تلقائية للهزيمة التي “سمحت” بها.
وقد انفردت روسيا – حتى اللحظة على الأقل – بإدارة الأزمة ثم حلها ثم متابعتها، بدون دور مؤثر وحقيقي لأي طرف آخر، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو، مبقية نفسها كمرجعية وحيدة لحل الصراع والفصل بين الجانبين. وفي إطار ذلك وبموافقة أذربيجان، ستنشر روسيا جنودها كقوات حفظ سلام على أراضي الأخيرة، معززة من حضورها في المنطقة التي تشهد تنافساً محموماً بينها وبين المعسكر الغربي.
اليوم، تلوح لتركيا فرصة استثنائية لتعظيم دورها في منطقة تنافس دولي شديد وخصوصاً مع روسيا، ولذلك فقد شددت التصريحات التركية الرسمية وعلى مختلف المستويات على فكرة “الانتصار” وتعزيز العلاقات مع أذربيجان وتطويرها في الفترة المقبلة.
وهذا تحديداً ما تسعى روسيا لتجنبه. فكما كتبتُ سابقاً، أرادت روسيا في الأزمة دوراً تركياً مسانداً لا ندياً ولا منافساً، ولذلك فقد ماطلت في إشراكها في جهود الحوار الأولى رغم مطالبة باكو بذلك.
والآن، وبعد الاتفاق الأخير، نفى الكرملين بشكل رسمي حديث الرئيس الأذربيجاني عن مشاركة قوات تركية في قوات حفظ السلام، مشدداً على أن “قوات حفظ السلام ستكون روسية فقط”، داعياً لـ”قراءة نص الاتفاق مجدداً”. ورغم ذلك، فقد قال الرئيس التركي إن بلاده ستناقش مع الطرف الروسي فكرة تأسيس نقطة مراقبة لوقف إطلاق النار، وكذلك مشاركة بلاده في قوات حفظ السلام.
هذا الاختلاف الواضح، إن لم نشأ أن نسميه خلافاً، انعكس على الجولة الأولى من اللقاءات بين وزارتي دفاع البلدين، والتي خرجت بتوافق على استمرار اللقاءات، أي أنهما لم تتوصلا لأي شيء ملموس، بسبب اختلافهما تحديداً على فكرة مشاركة تركيا في قوات حفظ السلام على الأرض، والتي يبدو أنه قد يستعاض عنها بنشر قوات تركية داخل أراضي أذربيجان.
هذا الاختلاف، أو بالأحرى التنافس الصامت، ليس استثناءً في العلاقات التركية- الروسية مؤخراً. فالأوضاع في كل من سوريا وليبيا تشي بذات المعطيات، اختلافات تركية- روسية يسعى الطرفان لإدارتها دون توتر كبير أو مواجهة مباشرة، لكن أيضاً دون القدرة على التوصل لاتفاقات نهائية أو تفاهمات مُرضية لكليهما، لا سيما وأن موسكو تراهن على أن خلل ميزان القوى لصالحها واستمرار الضغوط على أنقرة قد يدفعان الأخيرة لبعض التنازلات.
يضاف لكل ما سبق انتخاب بايدن لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يشاع أن أحد أهم اولويات سياسته الخارجية العودة لمواجهة روسيا أو احتوائها ضمن سعيه لاستعادة ثقة الحلفاء والحفاظ على قوة الناتو ووحدته. صحيح أن تركيا لن تستطيع أن تقدم على خطوات جذرية في العلاقة مع موسكو لكسب رضا واشنطن، لكن ذلك متغير سيلقي بثقله عليها ولا شك، على الأقل من باب كسب أوراق قوة في مفاوضاتها وتفاهماتها مع روسيا.
هو خط رفيع ذلك الذي تسير عليه أنقرة مع موسكو في مختلف القضايا الإقليمية، فالتساهل قد يدفع للتنازل والتشدد قد يؤدي لردة فعل روسية غالباً ما تكون في إدلب/ سوريا تحديداً. ولذا، يبدو أن سعي تركيا للتوازن بين واشنطن وموسكو والمناورة في المساحات الخلافية بينهما، والذي أفادها لسنوات طويلة، سيتعرض لتحديات حقيقية في رئاسة بايدن.
سيدفع ذلك تركيا لإعادة النظر نسبياً في العلاقات مع الطرفين، وربما طرح بعض المبادرات التي من شأنها تجنيبها أي تصعيد من قبل واشنطن، وفي مقدمتها تأجيل و/أو تجميد تفعيل منظومة إس 400 الروسية.