حسابات تركيا المعقدة في أزمة القوقاز

حسابات تركيا المعقدة في أزمة القوقاز

عربي 21

على عكس الكثير من الفاعلين، تتفرد تركيا بموقف واضح وحاسم ومعلن إلى جانب أذربيجان في موجة التصعيد الأخيرة مع أرمينيا، والتي اندلعت نهاية الشهر الفائت، معلنة دعمها الكامل لها لاستعادة أراضيها التي احتلتها في تسعينات القرن الماضي.

تتضافر في مدخلات الموقف التركي عوامل ثقافية وجيوبوليتيكية واقتصادية (متعلقة بأمن الطاقة) واستراتيجية، ما جعل الداخل التركي شبه موحد خلف أذربيجان. من شواهد ذلك حزبياً توقيعُ الأحزاب الأربعة الكبرى في البرلمان على بيان مشترك بهذا الخصوص،  وشعبياً نتائج استطلاع رأي أظهر دعم %92.6 من الشارع التركي لأذربيجان واستعداد %70.3 منهم “للحرب إلى جانب أذربيجان ضد أرمينيا” إذا لزم الأمر.

قد يوحي كل ذلك بأن الموقف التركي من الأزمة سهل ومباشر وتلقائي، لكن ليس كذلك، بل هو معقد وله حسابات كثيرة وأمامه تحديات ماثلة.

سبق لكاتب هذه السطور أن تحدث عن “حسابات تركية معقدة” في عدة أزمات وقضايا سابقة/قائمة، مثل سوريا وليبيا وشرق المتوسط، لكن ذلك لا يعني أن استخدام هذه الصياغة “كليشيه” مكرر.

فهناك أسباب وعوامل كثيرة في هذه القضايا تعقّد الحسابات التركية، في مقدمتها تداخل أطراف أخرى – عادة قوى عظمى – فيها وأدوات تركيا المستخدمة وإمكاناتها المحدودة وشبكة علاقاتها المعقدة. باختصار، فهذه الملفات تتداخل فيها قوى عديدة لها علاقات متشابكة ومصالح متباينة مع أنقرة، وهي مترابطة مع قضايا وملفات أخرى.

فيما يتعلق بموجة التصعيد الأخيرة في القوقاز، مما يعقّد حسابات تركيا إزاءها، إضافة لمجمل المصالح التركية وعدد الأطراف المتدخلة فيها:

أولاً، الدور الروسي. بسبب ريبتها من مسار تقاربها مؤخراً مع الغرب، حرصت روسيا على الضغط على أرمينيا، لكنها قطعاً لا تريد اختلال التوازن في جنوب القوقاز، ولا هزيمة مذلة لأرمينيا، ولا ثغرة تتسلل منها أطراف ثالثة لا سيما الولايات المتحدة.

يفسّر ذلك متغيرات الموقف الروسي مؤخراً، بما في ذلك الضغط باتجاه الحوار ووقف إطلاق النار، وكذلك إرسال السلاح لأرمينيا كما ذكرت عدة تقارير. هنا، تتعامل موسكو مع الملف بشكل حصري وتغلق الباب أمام دور حقيقي لأي طرف آخر، فالأزمة في عمقها الاستراتيجي ولها ارتداداتها على مجمل الجغرافيا السوفياتية السابقة. ولذلك فقد رسمت لمختلف الأطراف حدوداً معينة ولبعضهم – خصوصاً أذربيجان – خطوطاً حمراء ينذر تجاوزها بانقلاب موقف روسيا.

هذا الثقل النوعي والمتفرد الذي تمتلكه روسيا في الملف عموماً والأزمة الحالية خصوصاً، إضافة لاحتمالات تغير موقفها مستقبلاً، جزئياً أو كلياً، أحد أهم العناصر التي تراقبها تركيا عن كثب.

ثانياً، قلة الأدوات. تختلف هذه الأزمة عن مثيلاتها ولا سيما السورية والليبية، إذ هنا تركيا دولة داعمة وليست فاعلاً مباشراً. فأذربيجان دولة ذات سيادة تخوض معركتها بنفسها، بينما في سوريا وليبيا انقسامات داخلية وأدوار ميدانية مباشرة للفواعل الخارجية من ضمنها أنقرة. وعليه، ورغم التأثيرات الخارجية، لكنها ليست حرباً بالوكالة بين أطراف دولية وإقليمية بعناصر محلية في ظل انقسام داخلي وغياب للدولة الموحدة.

سياسياً أيضاً، لا تملك أنقرة أدوات تأثير مباشرة ومستقلة مثلما تملك روسيا مثلاً. فهي خارج إطار مينسك الثلاثي، المجموعة التي أنشأتها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا لحل الأزمة، ولا تملك قرار باكو بالتأكيد، ولذلك فالتصريحات التركية تتحدث عن دعم الأخيرة وخياراتها، وليس عن موقف تركي مستقل مثلاً.

ثالثاً، مآلات الأزمة. بتبسيط شديد، ثمة خياران أساسيان لمسار الأزمة مستقبلاً، استمرار المواجهة العسكرية أو بدء مسار تفاوضي حقيقي.

وإذا كانت المسار التفاوضي غير مضمون النتائج بالنسبة لباكو ولأنقرة، لا سيما وأن الأخيرة ليست على طاولة التفاوض حتى اللحظة في ظل التمنع الروسي، فإن استمرار المواجهة العسكرية له تحديات مختلفة.

ذلك أن ما تريده أذربيجان وتدعمه تركيا هو الإنجازات الميدانية التي يمكنها تغيير المعادلة وبالتالي زيادة الضغوط على أرمينيا – والمجتمع الدولي – للانسحاب، أي فكرة “حرب تحريك لا حرب تحرير”. بيد أن استمرار الاشتباكات له عدة احتمالات مستقبلية بعضها مقلق و/أو غير مضمون العواقب، مثل تبدل الموقف الروسي، أو انقلاب المعادلة الميدانية لصالح أرمينيا، أو دخول أطراف أخرى، أو توسع الاشتباكات نحو حرب شاملة …الخ.

السيناريو الأخير تحديداً، وإن كان غير مرجح حالياً، هو تحدٍّ كبير بالنسبة لتركيا، ليس على الصعيد القانوني، إذ لن تجد الحكومة صعوبة في استصدار تفويض من البرلمان بذلك. الأخطر أن هذا الاحتمال قد يضع أنقرة في مواجهة غير مباشرة مع موسكو، وهذا ما لا يريده الطرفان، لكن بالتأكيد لا تريده أنقرة أكثر لاعتبارات واضحة.

رابعاً، الثقة بأذربيجان. رغم وتيرة التصريحات الرسمية التركية ومضمونها الواضح بالدعم الكامل لأذربيجان والوقوف خلف خياراتها، إلا أن العلاقة بين أنقرة وباكو أبعد ما تكون عن تحالف استراتيجي بين بلدين فضلاًعن أن تشبه علاقاتِ الأولى مع فصائل المعارضة السورية وحكومة الوفاق الوطني الليبية.

فمن جهة، هناك العلاقات “الجيدة” التي تربط أذربيجان بروسيا رغم موقف الأخيرة التقليدي إلى جانب أرمينيا، وهناك العلاقات مع الكيان الصهيوني كذلك وخصوصاً في مجال التسليح الذي تنافس فيه تركيا، فضلاً عن الامتعاض التركي – غير المعلن رسمياً – من قبول باكو الحوار والتفاوض دون التزامات أرمينية واضحة، وهو ما نتج عنه مطالبات (وليس شروطاً..!) أذربيجانية بإشراك تركيا في الحوار.

وعليه، لا يبدو أن ثقة أنقرة بباكو وخياراتها المستقبلية عالية السقف فضلاً عن أن تكون كاملة، لا سيما إذا ما آلت الأزمة إلى مسار تفاوضي برعاية روسية حصرية.

خامساً، الترابط مع ملفات أخرى. مرة أخرى، نجد أنفسنا أمام ثنائية تركية – روسية، بما يرجّح احتمالية التوصل لتفاهمات بينهما إزاءه. لكن هذه المرة، لا ترغب موسكو بدور تركي منافس فضلاً عن أن يكون ندّياً. ولأن روسيا ربطت سابقاً بين الملفات ميدانياً، ضغطاً في أحدها لتحصيل مرونة تركية في آخر، تحسب أنقرة خطواتها بدقة.

تريد موسكو من أنقرة تشجيع باكو على وقف سريع لإطلاق النار وبدء مسار تفاوضي برعايتها، وستضغط لتحقيق ذلك. ما يعني أن التأثير بين هذه الملفات قد يعمل في الاتجاهين، أي أن ضغوطاً في ملفات أخرى قد تأتي ببعض المرونة فيما يخص القوقاز والعكس صحيح، بغض النظر أجاء ذلك عن طريق تفاهمات أم ضغوط، وبالنسبة للطرفين وإن كانت كفة روسيا أرجح.

سادساً، مصير ناغورنو. رغم التطورات الميدانية والقرارات الدولية السابقة ومواقف الأطراف المختلفة من النزاع، يبقى مصير إقليم ناغورنو قره باغ غامضاً.

فقرارات مجلس الأمن ذات العلاقة بالنزاع، أرقام 822 و853 و874 و884 لعام 1993 وقرار الجمعية العمومية رقم 10693 لعام 2008 كلها تؤكد على وحدة الأراضي الأذربيجانية وتدعو أرمينيا للانسحاب من “الأراضي الأذربيجانية  المحتلة”، لكن أياً منها لا يتحدث بشكل صريح وقاطع بشأن مستقبل الإقليم.

التصريحات الروسية، وغيرها من الأطراف ذات العلاقة، مؤخراً تصب في ذات السياق كذلك، بحيث ثمة حديث عام عن الأراضي الأذربيجانية المحتلة دون تخصيص الإقليم بشيء واضح.

وعليه، يمكن القول إن الوضع القانوني للمناطق الأذربيجانية الأخرى أسهل وأوضح من وضع الإقليم. ما يعني أن إمكانية باكو تحريره بالقوة العسكرية مشكوك بها (هل تسمح روسيا بذلك؟) واحتمالات حصولها عليه بالمسار التفاوضي أقل بكثير. فالأغلبية الأرمينية لقاطنيه والحكم الذاتي الذي تمتع به في الماضي وغيرها من العوامل قد تدعم مسار استفتاء شعبي في المستقبل نحو الإدارة الذاتية، وربما لاحقاً سياقات أخرى، ستقلل من أهمية وتأثير الإنجاز الأذربيجاني وبالتالي مكاسب الدور التركي في المنطقة.

في الخلاصة، لا تريد تركيا الحرب، وتدعم وقف إطلاق النار، ولكن على قاعدة التزام أرمينيا أو إلزامها بالانسحاب من الأراضي الأذربيجانية المحتلة. تطورات الأزمة حتى اللحظة جعلت أنقرة طرفاً فيها ولاعباً مهماً في المنطقة، لكن المآلات ليس مضمونة بالضرورة بالنسبة لها.

وباختصار شديد، فإن الحسابات التركية تتعلق بشكل أساسي بروسيا، موقفاً ودوراً وأدوات، فضلاً عن احتمالات التغيير في المستقبل. وهو أمر سيكون له انعكاساته على دور/نفوذ تركيا في المنطقة وعلاقاتها مع روسيا، وبالتالي على دورها في الملفات الإقليمية الأخرى التي تحضر فيها موسكو.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

لماذا جاء الرد على ماكرون من اردوغان؟

المقالة التالية

عن تشكك تركيا في وقف إطلاق النار بليبيا

المنشورات ذات الصلة