تركيا وكورونا: الأسوأ لم يأت بعد
عربي 21
تؤكد المؤشرات الأخيرة بخصوص وباء كورونا ما ذهبنا إليه في بدايات الجائحة، من أن تبعاتها الاقتصادية ستكون أعمق أثراً وأطول زمناً من تداعياتها الصحية المباشرة.
إذ تظهر إحصاءات الوباء مؤخراً تراجعاً عالمياً بطيئاً ومضطرداً، ما ساهم في قرارات التخفيف المتدرجة التي أصدرتها عدة دول. وفي غياب موجة ثانية من الوباء، كاحتمال قائم ولكن ضعيف، ستكون القطاعات الصحية في مختلف دول العالم قادرة على التعاطي معه بانتظار التوصل إلى لقاح أو علاج شافٍ أو تحوله ذاتياً لمرض موسمي.
وأما التبعات الأخرى، وفي مقدمتها الاقتصادية، فهي مرشحة لأن تستمر أكثر وأن تكون أعظم تأثيراً على الدول ومواطنيها على حد سواء. أكثر من ذلك، يمكن القول إن كفاءة مختلف الأنظمة والأحزاب والشخصيات الحاكمة في مكافحة الجائحة ستكون أحد أهم العوامل المحددة لمستقبلها في الحكم. ذلك أن الموافقة الطوعية للمواطنين على زيادة تدخل الدولة في مساحات جديدة والطاعة الكبيرة لها مدفوعة اليوم بالخوف من المرض، ولكن ذلك قد يتحول لنقمة في حال لم تنجح الدول/الأنظمة في مهمتها الأساسية في احتواء الوباء.
ولئن كُتب الكثير عن تداعيات طويلة المدى للوباء، بعضها متعلق بالحياة الاجتماعية وأخرى بالعلاقة بين الدولة والمواطن وثالثة بالارتدادات السياسية ورابعة بالنظام الدولي، إلا أن التبعات الاقتصادية تبقى الأهم والأخطر.
فيما يخص تركيا، فقد قدمت أداءً أكثر من مقبول في الجانب الصحي رغم أعداد الإصابات الكبير والذي وضعها في المركز التاسع عالمياً، حيث تظهر أعداد ونسب الإصابات الجديدة والوفيات ومرضى وحدات العناية المركزة تراجعاً مستقراً في الأسابيع الأخيرة، بما يعطي انطباعاً بأنها بدأت في التراجع بعد مرحلة ذروة الوباء. لكن البُعد الاقتصادي للجائحة ليس على نفس الصورة الإيجابية.
أتت جائحة كورونا في وقت كانت تركيا ما زالت تتعافى فيه من الأزمة الاقتصادية والمالية التي ضربتها صيف 2018. فبعد انكماش الناتج المحلي الإجمالي التركي في الربع الأخير من عام 2018 بنسبة %3، حققت تركيا نسب نمو ربع سنوية في عام 2019 بلغت – 2.6 (انكماش) و – 1.5 (انكماش) و 0.9 و 6 على التوالي، بنسبة نمو إجمالية للعام بلغت %0.9، وبتوقعات قريبة من 6-7% للربع الأول من العام الحالي.
إلا أن جائحة كورونا، التي سجلت أولى حالاتها في البلاد في بداية آذار/مارس الفائت قد ألقت بظلالها على الاقتصاد بشكل مباشر كما أنها زادت من الأعباء المالية للحكومة. فقد طالت تأثيرات الوباء التجارة الخارجية استيراداً وتصديراً وقطاعات السياحة والاستثمار والترفيه والرياضة، كما دفعت المواطنين لتقليل و/أو إعادة توجيه الاستهلاك الداخلي، وغير ذلك.
من جهة أخرى، فإن جهود الحكومة لتقليل أثر الجائحة على بعض القطاعات الاقتصادية والشرائح الاجتماعية تستنزفها مالياً حيث رصد لخطة “درع الاستقرار الاقتصادي” حوالي 15 مليار دولار أمريكي كرقم أولي. وإضافة لذلك، فإن احتياطي البنك المركزي التركي يتأثر سلباً بسعي الأخير دعم الليرة التركية في مواجهة العملات الصعبة، خصوصاً وأن الحكومة التركية تتحدث عن “استهداف خارجي منظم” لليرة عبر عمليات بيع وهمي أوصلتها لأدنى مستوى لها على الإطلاق قبل أيام وبواقع 7.24 ليرة للدولار.
بنتيجة كل ذلك، تراجع احتياطي البنك المركزي التركي من العملات الأجنبية خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري حوالي 30 مليار دولار (من 81.2 إلى 51.4)، بينما ارتفع احتياطي الذهب من قيمة 25 إلى 34.7 مليار دولار، ما يقلل التراجع الإجمالي إلى حدود 20 مليار دولار. يعني ذلك أن مقدار السيولة من العملات الأجنبية التي يملكها البنك المركزي، وهي الأهم في ظل الجائحة، قد تراجع بنسبة الثلث تقريباً.
هذه الوقائع الاقتصادية دفعت فيما يبدو الحكومة التركية – إضافة لهدف ترسيخ التكافل – لحث الميسورين من المواطنين للتبرع لذوي الحاجة ضمن حملة “نحن نكفي أنفسنا يا تركيا”، والتي جمعت حتى اللحظة ما قيمته ملياراً و 910 ملايين ليرة أي حوالي 27 مليون دولار، الأمر الذي انتقدته المعارضة واعتبره بعض رموزها مؤشراً على “إفلاس الدولة” و”استدانتها من المواطن”.
تشير التقديرات إلى أن بعض التبعات الاقتصادية لكورونا سيكون طويل المدى، أي سيستمر شهوراً وربما سنيناً. صحيح أن الخطوات التخفيفية تهدف لتحريك عجلة الاقتصاد وتقليل الأضرار، إلا أن هذه العملية لن تكون تلقائية وسريعة بطبيعة الحال.
ستستأنف بعض رحلات الطيران بشكل محدود ومتدرج، لكن التوقعات تشير إلى أن قطاع الطيران لم يعود لحالته السابقة عالمياً قبل سنوات. وسيُسمح لقطاع السياحة بالعمل جزئياً خلال فصل الصيف – ذروة عمله – لكن لن يكون بنفس أعداد وعائدات العام الفائت، في ظل تخوفات الناس من جهة وتوجههم نحو الانكفاء وترشيد الإنفاق من جهة ثانية.
ويمكن قول ما يشبه ذلك عن قطاعات اقتصادية أخرى مهمة. بل إن المواطنين في تركيا – والعالم – لم يلمسوا بعد التأثيرات الاقتصادية الحقيقية للوباء في حياتهم اليومية، وهي التي ستكون أشد على المدى البعيد، تأثراً بما ستعانيه الشركات الصغيرة والمتوسطة وكذلك سعر صرف الليرة والتضخم وغيرها، بما سينعكس ضعفاً في القدرة الشرائية وزيادة في نسبة البطالة، رغم أن المساعدات الحكومية اشترطت على الشركات عدم تسريح العاملين.
يعني كل ذلك أن تركيا مضطرة للعودة إلى الثنائية صعبة التحقق مرة أخرى: فهي لحاجة لأموال سائلة بالعملة الصعبة آنياً، لكنها كذلك بحاجة إلى تقليل اعتماد اقتصادها عليها على المدى البعيد، في إطار سعي الحكومة لعلاج المشاكل البنيوية في الاقتصاد لجعله أكثر قوة وصموداً.
الخيارات التركية للحصول على العملات الصعبة ليست كثيرة. فالاقتراض وارد لكن مصادره ليست كثيرة في ظل الجائحة تحديداً، والاستثمار سيفضل دولاً “أكثر أمناً” في ظل ظروف الوباء غير المستقرة. كما أن أنقرة ما زالت مصرة على أن الاقتراض من صندوق النقد الدولي “صفحة أغلقت تماماً ونهائياً” وألا عودة لهذا الخيار بتاتاً، ما يجعل في فكرة اللجوء إليه حرجاً كبيراً لاردوغان والحكومة.
يبقى المسار الذي تعمل عليه الحكومة التركية وهو تبادل العملات، والذي سعت له مؤخراً مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول مجموعة العشرين، وهو أمر ما زالت فرص نجاحه وحدوده قيد المباحثات بينها وبين هذه الدول.
في المحصلة، ختاماً، قدمت تركيا امتحاناً جيداً إزاء الجائحة في القطاع الصحي، وتحاول أن تقلل من تداعياتها الاقتصادية. لكن الأزمة الاقتصادية التي كانت في طور التعافي منها، وبُنية الاقتصاد التركي، وتأثير الوباء على الاقتصادات النامية بشكل خاص، واستنزاف احتياطي البنك المركزي، والضغوط الخارجية عليها وخصوصاً على سعر صرف الليرة، كل ذلك يضع أنقرة أمام تحد صعب على المدى البعيد.
فإذا ما وضعنا في الحسبان أن الاقتصاد كان أهم إنجازات اردوغان والعدالة والتنمية، وأنه أحد أهم معايير تقييم الحكومات لدى الناخبين، وأنه أحد أكبر مجالات انتقاد المعارضة للحكومة، وأن المعارضة ضمت إليها مؤخراً حزباً يقوده علي باباجان صانع إنجازات العدالة والتنمية الاقتصادية، يمكننا أن نقول إن التحدي الرئيس لوباء كورونا على الرئيس اردوغان وحزب العدالة والتنمية ما زال لم يأت بعد.