إدلب ما بعد فشل المحادثات التركية – الروسية
TRT عربي
لم يعلن الطرفان التركي والروسي فشل مباحثاتهما الأخيرة بخصوص إدلب لكن كل المؤشرات تشير إلى فشلهما في التوصل لتثبيت وقف إطلاق النار أو التوصل لاتفاق جديد. ذلك أنالجانبين لم يتوصلا لاتفاق أو تفاهمات ما، ولا أعلنا عن لقاء أو تواصل مرتقب بين الرئيسين اردوغان وبوتين، بل قررا مواصلة المباحثات “خلال الأسبوع المقبل” دون تحديد تاريخ بعينه، فضلاً عن أن النظام ما زال مستمراً في التصعيد الميداني بدعم من روسيا ومشاركتها المباشرة.
هذا التعثر في المباحثات كان متوقعاً بسبب الخلاف الكبير والواضح بين الطرفين في مقاربة ملف إدلب وفق التطورات الأخيرة، بل لعله ليس من قبيل المبالغة القول إننا إزاء التوتر الأكبر بينهما منذ أزمة إسقاط المقاتلة الروسية خريف 2015، فما تريده أنقرة يتناقض بشكل تام مع ما تسعى إليه موسكو.
تطالب أنقرة بالالتزام باتفاق سوتشي 2018 وتراجع النظام إلى الحدود التي حددها الاتفاق وتثبيت وقف إطلاق النار، بينما تسعى موسكو لتمكين النظام من السيطرة على كامل المنطقة على المدى البعيد وتثبيت ما كسبه حتى اللحظة كنقاط تماس جديدة في التفاوض مع أنقرة على المدى القريب. التعزيزات التركية والتصريحات عالية السقف تعني أن تركيا جادة في كبح جماح النظام ولو تطلب ذلك عملاً عسكرياً كما توعد الرئيس اردوغان وإن كانت حريصة على تجنب الصدام مع روسيا، بينما تسعى الأخيرة لتثبيت مكاسب النظام دون أن تخسر تركيا، وهنا تكمن العقدة.
ثمة حدود لا تريد أنقرة للنظام تخطيها وتبدو مستعدة لمنع حصول ذلك ولو بالقوة، وفي مقدمتها تعريض أمن جنودها في نقاط المراقبة للخطر، وحدوث مقتلة كبيرة بين السكان المدنيين في إدلب وبالتالي تعريضها لموجة لجوء كبيرة، ومحاولة النظام الوصول لحدودها.
فشل جولة المحادثات الأولى في التوصل لاتفاق ما رغم التهديدات التركية ورغم مهلة أنقرة للنظام حتى نهاية الشهر الجاري يعني أنالكلمة ستكون للميدان. هذا ما تنبئنا به الأرتال التركية المرسلة للحدود والداخل السوري، وما تحدثت عنه المعارضة السورية عن إطلاق عملية ضد قوات النظام في إدلب، وعدد الجنود الأتراك الذين سقطوا مجدداً إثر قصف النظام السوري.
يضيف ذلك تعقيدات إضافية على التعاون التركي – الروسي الذي بات هشاً مؤخراً في سوريا. فقد حملت تركيا روسيا مسؤولية عدم التزام النظام بوقف إطلاق النار، بينما حملت موسكو أنقرة مسؤولية سقوط جنودها بقصف النظام الأسبوع الفائت مدعية أنها لم تنسق معها كما يجب وهو ما نفته أنقرة وفندته بالتفصيل. بل إن الجانب الروسي لم يقدم تعزية واضحة ورسمية معلنة للجانب التركي بعد تلك الحادثة في إشارة لا تخلى من دلالة، خصوصاً إذا ما قورنت بالتعزية الرسمية السريعة من الولايات المتحدة التي عادت مؤخراً لخطاب “شريكتنا تركيا في الناتو” والدعوة لدعمها في مواجهة روسيا، وهو ما يعني أن الموقف الأمريكي – الذي لم يتبلور نهائياً حتى اللحظة – جزء من معادلة التوتر القائمة حتى اللحظة وسيكون بالتأكيد جزءاً من رسم المشهد المستقبلي.
في ظل الإصرار التركي والحسابات الدقيقة للجانبين، يمكن القول إن الكرة في ملعب روسيا التي سيكون عليها تحديد إلى أي مدى هي قادرة على وراغبة في توتير علاقاتها مع تركيا لمصلحة تقدم النظام، لا سيما وأن لذلك تداعياته ليس فقط على التوازنات الميدانية وإنما كذلك على المسار السياسي الذي لا يمكن لروسيا أن تستمر وتنجح فيه دون تعاون أنقرة.
تسارع التطورات الميدانية وسخونتها يعني أن المسار السياسي سيتحرك بدرجة أو بأخرى، لا سيما وأن أنقرة قد أثبتت حتى اللحظة جديتها فيما يتعلق بالنظام. ولئن كانت المعارضة السورية هي البادئة بالتحرك، إلا أن ذلك لا يمنع أو ينفي حصولها على دعم تركي أو مشاركة قوات تركية بدرجة أو بأخرى في العمليات الميدانية لا سيما بعد استهداف النظام لها.
وعليه، وفي ظل كل ما سبق، سيبقى السؤال الأهم: إلى أين تسير الأمور في إدلب وما هو مصيرها؟
لا شك في أن الجانبين التركي والروسي راغبان في التوصل لاتفاق جديد بخصوص إدلب بما يبقي على تفاهماتهما وتعاونهما ويجنبهما مواجهة لا يريدانها، لكن هدف كل منهما من الاتفاق المفترض بعيد جداً عن الآخر.
بيد أن التطورات الميدانية قد ألقت بظلالها بالتأكيد على مسار الأحداث ومساعي التفاوض، بما يعني أن التفاهمات المفترضة باتت أقرب منها بعد التصعيد الميداني مما كانت عليه قبله. لا يعني ذلك أن الاتفاق قد يبرم خلال ساعات – رغم أنه احتمال قائم – ولكنه بالتأكيد أقرب للحصول مما كان عليه الوضع قبل أيام، فالحرب حالة تفاوض سياسية ساخنة أو على الأقل إرهاصتها الأولى.
ومن البديهي أن أي تفاهم سيتوصل له الطرفان ينبغي أن يلبي على الأقل الحد الأدنى مما يطالب به كل منهما، وعليه يمكن التوقع بأن يبني على اتفاق سوتشي السابق وإن لم يكن مطابقاً له، آخذاً بعين الاعتبار بعض التطورات الميدانية لصالح النظام، لكنه في نفس الوقت يحيّد نقاط المراقبة التركية عن احتمالية الاستهداف ويحصنها من جهة ويوقف تقدم النظام للحدود التركية – السورية من جهة أخرى ويحول – في الوقت الراهن – دون حدوث موجة لجوء كبيرة نحو الحدود التركية بسبب استهداف مركز إدلب مثلاً.
بيد أنه من البديهي كذلك أن أي اتفاق يمكن أن يتوصل إليه الجانبان لن يردم تماماً فجوة الثقة وهوة الخلاف بينهما، وبالتالي سيكون هشاً كسابقيه، لكنه سيكون على الأقل قادراً على نزع فتيل التصعيد الحالي والإبقاء على شعرة معاوية بخصوص التفاهمات بين الطرفين. وإلا، فإن الأحداث قد تتدحرج إلى ما لا يريده الطرفان، وإذا ما حصل ذلك سيكون معناه أن روسيا قد زهدت بالتعاون التركي معها في الملف السوري وتخلت عنه حتى إشعار آخر، وهو ما لا يصب في مصلحتها على المدى البعيد وإن خدم خليفها المحلي راهناً.