حول بيان حركة حماس بخصوص اغتيال قاسم سليماني

رأي

حول بيان حركة حماس بخصوص اغتيال قاسم سليماني

يتندر أساتذة العلاقات الدولية بأن فترة الحرب الباردة كانت سهلة عليهم في البحث والتحليل والاستشراف، إذ كان ثمة إطار تفسيري واحد تقريباً لمعظم الأحداث حول العالم وموقف مختلف الأطراف منها، وهو حالة العداء أو التنافس بين الكتلتين العظميين. بعد نهاية الحرب الباردة، تغير ذلك كله ولم يعد هناك تفسير أوحد، بل لعل الكثير من التطورات لم يكن لها أي إطار كافٍ ووافٍ للتفسير.

شيء من هذا القبيل يصح في المنطقة بعد الثورات. ما قبلها كانت الأمور شبه واضحة بين محورَيْ الاعتدال والممانعة كما سميا حينها. اما بعد الثورات والثورات المضادة، فاختلط الحابل بالنابل ولم يعد شيء كما كان سابقاً، ولم يعد لأي دولة/جهة/شخصية بُعد واحد أو دور وحيد في المنطقة وإنما أدوار متشابكة ومعقدة وأحياناً متناقضة.

فالدور الأمريكي في سوريا اختلف عنه في العراق، والدور السعودي في مصر يتناقض تماماً مع دورها لفترة معينة في سوريا، وهكذا، لكن المثال الأبرز على ذلك كان إيران. في سوريا، دعمت إيران النظام وباتت شريكته في القتل والتدمير والتهجير، لكنها بقيت على دعمها للمقاومة الفلسطينية وفصائلها، وهما وجهان متناقضان ولا شك لكنها حاضران بوضوح. عداء إيران للكيان الصهيوني حقيقي وليس مسرحيةً أو استعراضاً (وإن كان مشروعها خاصاً بها)، ودعم إيران للمقاومة حقيقي وليس إدعاءً، وهو دعم يتخطى السياسة والإعلام إلى البعد العسكري والأمني والتسليحي إضافة لتطابق الرؤية تجاه الكيان الصهيوني (رفض وجوده بالمطلق)، وهو ما لا يتوافر في أي دولة أو جهة أخرى.

وبالتالي فعلاقة حـــ0ـــاس مع إيران ليست اختياراً ولا رفاهية، وإنما هي في صلب مشروع المقاومة والأدوات الأهم لحركة تحرر وطني وليست متعلقة بـ”المال” و”الرواتب” و”المصالح” كما يغمز البعض. الأداء العسكري والأمني المتميز الذي تظهره حـــ0ـــاس في كل مواجهة مع العدو الصهيوني وفي فترات التهدئة بينها مردُّه إلى أخذها بالأسباب بجدية، ومن ضمن هذه الأسباب الإبقاء على علاقة جيدة (بل وأكثر من جيدة) مع من يقدم لها دعماً “حقيقياً” وفارقاً في الصراع مع العدو الذي هو الثغر الرئيس – شبه الوحيد – الذي تقف عليه.

من هذا الباب، لحـــ0ـــاس كحركة مقاومة مصلحة واضحة في علاقات متقدمة مع إيران، في مساحة المواجهة مع العدو الصهيوني، وليس في مساحة الدور الإيراني في سوريا والعراق مثلاً. ولعلي أزعم أنه لم يصدر عن حـــ0ـــاس لا تصريحاً ولا ضمناً أي موقف مؤيد لطهران في أي من سياساتها في المنطقة، ولا حتى على صعيد التبرير والشرعنة لأي من خطواتها في سوريا والعراق تحديداً. بل يدرك الجميع أن الموقف من القضية السورية كان محطة فارقة في العلاقات بين الطرفين كادت تؤدي بهما إلى القطيعة الكاملة، والكل يعرف ما الثمن الذي دفعته حـــ0ـــاس في وقتها.

صحيح أن سليماني كان منفذ السياسات الإيرانية في سوريا والعراق وغيرهما، لكنه أيضاً كان صلة الوصل مع فصائل المقاومة الفلسطينية ودوره في دعمها كبير وملحوظ ومؤثر ولا يمكن إنكاره. بهذا الاعتبار، ولأنه قضى بقصف أمريكي مباشر، لا يمكن توقع إلا أن تصدر حـــ0ـــاس بيان تعزية فيه، وهو موقف لا يمكن بحال من الاحوال فهمه على أنه شرعنة أو تبرير لأدواره الأخرى في المنطقة. هنا، لم يكن يسع حـــ0ـــاس السكوت أو الصمت، إذ كان ذلك سيعتبر موقفاً راضياً بعملية الاغتيال (التي قام بها الأمريكان) وسيجر عليها ما لا تحمد عقباه على صعيد العلاقة مع طهران.
هذا مستوى أول من النقاش، كان يفترض أننا تجاوزناه منذ زمن، ولكنه للأسف يتردد في كل محطة أو بالأحرى في كل بيان لحـــ0ـــاس بخصوص إيران أو حزب الله، رغم أنها تصدر بيانات – فيما يبدو لي – حصراً بمن يقضون برصاص/قصف أمريكي أو “إسرائيلي”. هذا النقاش الذي يفترض أننا تجاوزناه شكَّل – فيما تابعت – الغالبية العظمى من نقاش وسائل التواصل. ورغم أنه لا يمكن مطالبة الكل بأن يعي كل الملابسات وليس من الحكمة توقع نفس مستوى الوعي من الجميع وأن المكلوم لا يلام على موقفه، إلا أنه مؤشر سلبي في نهاية المطاف برأيي.

هناك مستوى ثانٍ من النقاش، متعلق بمدى صوابية صياغة البيان والألفاظ المستخدمة فيه، خصوصاً الأوصاف المسبغة على سليماني والتي اعتبرها الكثيرون تمجيداً ومدحاً له، ناقلين الأمر – مرة أخرى – لمساحة شرعنة دوره في سوريا والعراق تحديداً. هذا نقاش أولى وأهم من الأول وفيه حظ من المنطق والأحقية اكثر من سابقه، خصوصاً انه يتجاوز مبدئية البيان إلى مضمونه وأسلوبه من جهة وأنه يقوم على أرضية الحرص على حـــ0ـــاس والعتب عليها من جهة أخرى.

ولا شك أن بيانها قد بالغ في المديح (وبيان كتائب القــــ ـســ ـام أكثر) وهو أمر مرتبط من جهة بما سبق ذكره من حرصها على العلاقة مع إيران وتقديرها لدور سليماني الذي تريد له أن يستمر، ومن جهة أخرى بمدى سرعة إطلاق البيان بما ضيّق فيما يبدو المساحة الزمنية والإجرائية لإخراج بيان أكثر دقة وتوازناً في مصطلحاته.

ورغم ذلك، ورغم ما يمكن أن يقال عن صياغة البيان وأسلوبه وألفاظه، إلا أن البعض أخرجه مرة أخرى عن مراده وسقفه، حيث أن الانتقادات الموجهة له تجاوزت من عدة زوايا. فإذا ما كان البيان قد أخطأ في بعض الصياغات، فقد أخطأ الكثير من المنتقدين في اعتباره اصطفافاً ضد السوريين والعراقيين وبيعاً لدمائهم. وإذا كان البيان قد بالغ في بعض الألفاظ، فقد أخطأ البعض أكثر في اعتبار أن حـــ0ـــاس مهتمة بمصالح “مالية” ضيقة. وإذا كانت حـــ0ـــاس قد أصدرت بيان تعزية، فقد بالغ البعض في الخلط بين السياسي والأخلاقي (العقدي بالنسبة للبعض) ووضعوا البيانات موضع المواقف بل الأفعال السياسية، وهو تجاوز غير دقيق.

ثمة مسؤولية تقع على كاهل قيادة حـــ0ـــاس، وهي التروي وتحري الدقة في البيانات والمواقف واختيار أفضل الألفاظ وأقلها ضرراً واحتمالاً لسوء الفهم (ولن تخلو أي صياغة من اعتراضات ونقد) من جهة، والاستماع بصدر رحب للانتقادات التي تواجه بها، لا سيما حين تأتي ممن يصدرون مواقفهم ونقدهم على أرضية دعمها والثقة بها والعتب عليها من باب “العشم”. هنا، لا ينبغي أبداً التهوين من الارتدادات السلبية لبعض التصريحات والبيانات، والتي تحتاج دائماً لحسن التواصل والشرح والنقاش بعد توخي أفضل الصياغات.

تحتاج حـــ0ـــاس من حاضنتها الشعبية في العالم العربي والإسلامي مزيداً من التفهم لإكراهات واقعها ومسؤولياتها والثغر الذي تقف عليه (وهو تفهم لا يلغي النقد بالتأكيد)، وينبغي عليها الحرص والدقة وفتح قنوات التواصل لشرح مواقفها، وليس مطلوباً منها المواقف المرغوبة أو المقبولة شعبياً إن كانت مضرة على المدى الاستراتيجي. فمصلحة فلسطين والأمة الإسلامية كلها في مقاومة قوية ومؤثرة وقائمة بمسؤولياتها، وهذه ليست أنانية منها وإنما هو أداؤها للأمانة المطلوبة منها. فليس هناك بين جموع الغاضبين منها أو عليها من سيكون سعيداً – أفترضُ – بأن تُكسر لا قدر الله إن فرطت في الأخذ بأسباب القوة، وليس بينهم من هو قادر على سد الثغر الذي تسده هي أو على تقديم ما تحتاجه وما تقدمه إيران.

وهناك مستوى ثالث مهم ندر من تحدث عنه وناقشه، وهو حدود الرد الإيراني واحتمالات المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران وساحة هذه المواجهة وأدواتها وارتداداتها على كامل المنطقة وقضاياها المتعددة، وهو نقاش تاه للأسف بين الأمواج الهادرة للعواطف والمواقف المغالية تبريراً أو هجوماً.

في المحصلة، مواقف حـــ0ـــاس من قضايا الأمة واضحة وتاريخها ينطق بها، ولا ينبغي تحميل البيانات أكثر مما تحتمل من مجاملات سياسية وعلاقات عامة وتقوية علاقات، خصوصاً وأنها تصب في صلب احتياجاتها كحركة مقاومة. هذا الأمر سياسي وليس عقدياً، ولا يحتمل أبداً مفهوم الاصطفاف ضد أي من مكونات الأمة ولا التنكر لمعاناتها، ما يفرض على منتقديه عدم المغالاة في التهجم عليها. أما من يحترفون المزايدات والشتائم ولا يصدرون في مواقفهم عن قاعدة دعم المقاومة وتفهم ظروفها ويخلطون بين مستويات الفعل السياسي ويريدون منها ما لا تستطيع فضلاً عمن يعتبرون مجرد علاقاتها مع إيران خطيئة يريدون منها التراجع عنه فلا أجد فرصاً كبيرة لإقناعهم، إذ يتطلب ذلك منهم تلك الإمكانية والاستعداد في الأصل.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

ليبيا بين الدعم التركي والتحركات الأوروبية

المقالة التالية

اغتيال سليماني: حسابات تركيا المعقدة

المنشورات ذات الصلة