عملية نبع السلام والجبهة الداخلية في تركيا
نون بوست
بقدر ما تحتاج أي حرب أو عملية عسكرية لغطاء سياسي ومسوغات قانونية وقدرات عسكرية، فإنها تحتاج كذلك لجبهة داخلية متماسكة ومؤيدة لها، بل لعله أحد أهم شروط النجاح، وعملية نبع السلام التي بدأتها تركيا في شمال شرق سوريا ليست استثناء في هذا.
وإذا كانت المواقف الدولية والإقليمية من العملية تُرصد بشكل حثيث والتطورات الميدانية تُتابع آنياً وبكل تفاصيلها، تبقى التفاعلات الداخلية في تركيا ودينامياتها ومتغيراتها الحاصلة والمحتملة مهمة للرصد والتحليل.
في المقام الأول، تنبغي الإشارة إلى أن الداخل التركي مجمع – إلا من استثناءات بسيطة – على خطر حزب العمال الكرستاني وضرورة مكافحته. كما أن المشاعر القومية والخطاب القومي باتا أكثر حضوراً في المشهد السياسي والإعلامي التركي في السنوات الأخيرة، وهو ما انعكس على تأييد العملية الأخيرة.
الحديث المتكرر عن المسألة الوجودية وخطر العمال الكردستاني من جهة، والضربات التي تعرَّضَ لها الأخيرُ مؤخراً داخل تركيا وفي كل من سوريا والعراق من جهة أخرى، والتأكيد على أن مناطق شرق الفرات هي حصنه الأخير في سوريا وثمة فرصة لإفقاده إياها من جهة ثالثة ساهمت كلها في توفير حاضنة شعبية مؤيدة للعملية.
كما أن الأهداف المعلنة للعملية في سوريا، والتي تشمل إعادة مليونين إلى ثلاثة ملايين لاجئ سوري من تركيا إلى المنطقة الآمنة التي تزمع تركيا إنشاءها في الشمال السوري، ساهمت بشكل غير مباشر في حشد التأييد للعملية ويمكن اعتبارها عاملاً مسانداً ثانوياً بالنسبة لكثيرين.
أحد مؤشرات ذلك الواضحة هو استطلاع الرأي الذي أجرته شركة أريدا AREDA حول عملية نبع السلام خلال الأيام الماضية. فقد بلغت نسبة تأييد العملية %76 من المشاركين، ونسبة من يتوقعون نجاحها %77.2، ونسبة من يرون أنها تأخرت وكان يفترض أن تطلق قبل الآن %46.5، ونسبة من يثقون بأنها ستحقق الأمن داخل تركيا %74.5، فيما قال %77.8 بأنهم مستعدون للمشاركة في العملية في حال تطلب الأمر ذلك.
هذا التأييد الشعبي الواضح انعكس بالتأكيد على الأحزاب السياسية، ذلك أنه باستثناء حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يعتبره الكثيرون الذراع السياسية للكردستاني، لم يعارض العملية أيٌّ من الأحزاب السياسية المعروفة في البلاد، على درجات متفاوتة بينهم.
فحزب العدالة والتنمية هو حزب الرئيس ويعتبر الحزب الحاكم في البلاد وبالتالي فهو يقف خلف العملية بالكامل، وكذلك حليفه حزب الحركة القومية الذي يؤيدها بحماسة شديدة. وليس مفاجئاً أن الحزب الجيد، المنشق عن الحركة القومية، والذي يحمل معه نفس الأيدلويجيا القومية التركية لا يقل عنه حماسة في تأييد العملية، حتى أن رئيس الحزب ميرال أكشنار قدمت التحية العسكرية للجنود الأتراك المشاركين في العملية من على منبر كتلة حزبها البرلمانية في اجتماعها الأخير.
حزب الشعب الجمهوري، أكبر احزاب المعارضة، ورغم نقده الشديد لاردوغان وسياسته الخارجية لا سيما في الملف السوري، لم يستطع أن يشذ عن دعم العملية وتأييدها وإن من باب سلامة الجنود المشاركين بها وحماية مصالح بلاده في سوريا والمنطقة. كما أن كل الأحزاب سالفة الذكر شاركت الأسبوع الفائت في تجديد تفويض البرلمان للقوات المسلحة التركية بالعمليات العسكرية في سوريا والعراق، والذي يمثل الغطاء القانوني الأساسي للعملية وسابقاتها.
ولأهمية الجبهة الداخلية في عملية كهذه، يمكن القول إنها كانت مستهدفة من قبل قوات سوريا الديمقراطية – قسد – منذ اليوم الأول لها، حيث اتضح تركيزها على قصف مناطق سكنية في الداخل التركي لإيقاع أكبر عدد ممكن من القتلى والجرحى لتحويل الحاضنة الشعبية إلى عنصر ضغط على الحكومة. لكن تكرر عمليات القصف ومن تسببت بهم من قتلى وجرحى، وكما هو متوقع، أدت إلى عكس ذلك ومطالبة الحكومة باستكمال العملية حتى إنهاء “خطر الإرهاب” تماماً.
العامل الثاني الذي يمكن القول إن تركيا تتعرض لضغوط بخصوصه هو الاقتصادي، فالبلاد ما زالت لم تتعاف تماماً من الأزمة الاقتصادية التي بدأت العام الفائت، وعملية عسكرية كهذه تحتاج بالتأكيد لاقتصاد حرب بمحددات معينة وخسائر متوقعة. ويبدو أن أنقرة قد اتخذت احتياطاتها للأمر، حيث لم تظهر تأثيرات سلبية كبيرة للعملية على الاقتصاد أو العملة حتى لحظة كتابة هذه السطور. لكن الضغوط السياسية التي تتعرض لها تركيا واحتمالات تعرضها لعقوبات أمريكية و/أو أوروبية، بدأت بعض ملامحها وحِزَمها الأولى بالظهور، يمكن أن يكون لها ارتداداتها بالتأكيد.
في المشهد السياسي والحزبي الداخلي، يمكن القول إن عملية نبع السلام قد زادت من حرج حزب الشعوب الديمقراطي وعزلته عن باقي الأحزاب، اختياراً أو اضطراراً، وجعلت كلفة العلاقات بينه وبين أي حزب آخر مرتفعة جداً على الأخير بدرجة لايمكن لقائد سياسي تحمل تبعاتها. وهو أمر قد يكون له تبعاته على تحالف “الأمة” المعارض الذي يقوده الشعب الجمهوري ولا ينتمي له الشعوب الديمقراطي رسمياً ولكنه محسوب عليه ويدعمه من بعيد.
فإذا ما أضيف ارتفاع شعبية اردوغان مع العملية كما هو متوقع، يمكن القول إن ميزان الاستقطاب السياسي والحزبي في البلاد يميل مع هذه العملية لصالح اردوغان والعدالة والتنمية ولو نسبياً. وهو ما دفع البعض للقول إن اردوغان تقصّد إطلاق العملية في هذا التوقيت بالتحديد، ضغطاً على تحالف المعارضة وإحراجاً للأحزاب السياسية المزمع إعلانها قريباً، فضلاً عن احتمالية أن يدعو لانتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة قبل أن تكون هذه الأحزاب قد استحقت المشاركة بها قانونياً أو أثبتت حضورها برامجياً وجماهيرياً.
أخيراً، لا يبدو هذا التماسك الداخلي خلف العملية ثابتاً وجامداً، وإنما بدأت تظهر على تخومه بعض المتغيرات الجزئية لا سيما على صعيد أحزاب المعارضة. إذ بعد التأييد المطلق للعملية والوقوف خلف اردوغان والحكومة في إطلاقها، بدأت نغمة بعض الأحزاب وخصوصاً حزبي الشعب الجمهوري والجيد تتحول نحو النقد الواضح للرئيس وحزبه وحكومته. تبدى هذا النقد أولاً بتحميلهم مسؤولية ما آلت إليه السياسية الخارجية لتركيا معتبرين أن اردوغان هو المسؤول عن وصول الأمور للحاجة لعمليات عسكرية وأن “الجيش التركي يحاول اليوم إصلاح ما أفسدته السياسة الخارجية لاردوغان والعدالة والتنمية” على مدى السنوات الماضية، وصولاً لاتهام زعيم المعارضة لحزب العدالة والتنمية أنه يشن هذه العملية لأهداف سياسية وحزبية، وهو ما ألمحت إليه ميرال أكشنار زعيمة الحزب الجيد كذلك.
وعليه، يمكن القول إن الجبهة الداخلية في تركيا موحدة شعبياً خلف العملية العسكرية التي تحظى كذلك بشبكة حماية سياسية وحزبية لا بأس بها. لكن المناكفات الداخلية بدأت تلقي ببعض ظلالها على الخطاب السياسي الداخلي بما قلل من الدعم المقدم للحكومة وإن لم يرافق ذلك حتى اللحظة سحب تأييد العملية أو تراجعه. وبالنظر للضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية التي تحاول التأثير على القاعدة الشعبية والتأييد الجماهيري للعملية، يمكن القول إن أكثر مسار قادر على احتواء هذه المتغيرات المحتملة هو سرعة العملية وإنجازها وتحقيقها أهدافها المعلنة في أقصر وقت وأقل خسائر ممكنة، لا سيما البشرية والاقتصادية.