هل ستصمد العلاقات التركية – الروسية في إدلب؟

هل ستصمد العلاقات التركية – الروسية في إدلب؟

TRT عربي

بالنظر إلى التطورات المتسارعة على جبهة إدلب منذ محادثات أستانا 13، يمكن القول إن لروسيا موقفاً مستجدّاً، ليس فقط في مواجهة المعارضة السورية، بل وفي مواجهة تركيا.

هذا ما يفسر المتغيرات الميدانية الجذرية التي شملت تقدُّم النظام وسيطرته على خان شيخون الاستراتيجية وبعض البلدات المحيطة بها، وكذلك قصفه الرتل العسكري التركي قبلها بقليل.

لا شكّ أن إخفاق النظام في تحقيق اختراق ملحوظ في إدلب على مدى أشهر فضلاً عن جمود العملية السياسية عند عقدة اللجنة الدستورية، من أهم أسباب الموقف الروسي المستجد، إلا أن المتغير الأهم كان التفاهمات التركية-الأمريكية بخصوص المنطقة الآمنة شمال شرق سوريا.

تحفُّظ موسكو على التفاهمات وعلى ما اعتبرته تقارباً بين أنقرة وواشنطن تَحوَّل إلى رسائل ساخنة باتجاه أنقرة، وصيغ على شكل قصف الرتل العسكري، وحصار نقطة المراقبة التركية رقم 9، وعودة النظام لقصف نقطة مراقبة أخرى في معرة النعمان رغم التحذيرات التركية.

شكّلَت هذه الرسائل الساخنة المتتالية حرجاً كبيراً لأنقرة، سياسياً وميدانياً، وطرحت علامات استفهام حول مدى متانة التفاهمات مع موسكو التي تجاهلت تماماً هذه المرة -بعكس المرات السابقة- التحفظات والاعتراضات والنداءات التركية بشكل بدا متعمَّداً.

وعليه، ثمة من يرى أن اتفاق سوتشي بخصوص إدلب بات في حكم المُلغَى على بعد أيام قليلة فقط من ذكراه السنوية الأولى، كما أن مسار أستانا برمته بات في مهبّ الريح. إلا أن هذه التقييمات تبدو متسرعة نوعاً ما، ففضلاً عن أن الحديث عن استغناء روسيا عن تركيا ودورها في القضية السورية ما زال مبكراً، لا ينبغي أيضاً النظر إلى العلاقات التركية-الروسية من الزاوية السورية حصراً.

فمسار العلاقات المتحسن بين الطرفين في السنوات الأخيرة شمل جوانب ذات أبعاد استراتيجية، كصفقة S-400 الصاروخية، ومشاريع الطاقة مثل السيل التركي للغاز الطبيعي، ومحطة أك كويو للطاقة النووية، فضلاً عن ارتفاع مستوى التبادل التجاري بينهما.

بهذا المعنى، لا تنقلب موسكو هنا على مسار التقارب مع أنقرة تماماً، ولا تقلب عليها الطاولة في سوريا تحديداً بقدر ما تعبّر عن غضبها من تقارب الأخيرة مع واشنطن ورغبتها في إعادة التفاوض معها حول إدلب خصوصاً والملف السوري عموماً، ولكن على الطريقة الروسية التي تستبق عادةً أي جولة حوار أو تفاوض حقيقي بمحطة تصعيد وضغط ميداني.

في هذا السياق يمكن فهم الاعتراضات الروسية المتكاثرة مؤخراً بخصوص مدى تنفيذ تركيا التزاماتها في إدلب وفق اتفاق سوتشي، فضلاً عن نشرها جنوداً لها في إدلب كما ذكر وزير خارجيتها سيرغي لافروف قبل أيام.

لا تنقلب موسكو هنا على مسار التقارب مع أنقرة تماماً ولا تقلب عليها الطاولة في سوريا تحديداً بقدر ما تعبر عن غضبها من تقارب الأخيرة مع واشنطن.

تركيا اليوم في وضع غير مريح، فقد تغيرت الظروف التي طالما أفادتها من هامش الخلافات الأمريكية-الروسية في سوريا، وباتت اليوم ضاغطة عليها من الطرفين بدل أن تعمل لصالحها، كما أن الميزان العسكري في مقابل روسيا ليس لصالحها وليس في نيتها أي مواجهة مع الأخيرة ولو سياسيّاً، خصوصاً أنها تستفيد من الغطاء السياسي الذي توفّره الأخيرة لعملياتها ووجودها العسكري في سوريا.

ورغم ذلك لا تملك أنقرة اليوم إمكانية قبول مطالب موسكو بالكامل أو السكوت عن محاولة تحقيق أهدافها القديمة المستجدة بخصوص إدلب. صحيح أن أولويتها في سوريا هي مواجهة مشروع PYD في شرق الفرات، إلا أنها تملك كذلك خطوطاً حمراء لن تقبل بسهولة تجاوزها في إدلب، في مقدمتها سلامة جنودها ونقاط مراقبتها، ولكن أيضاً خسارة إدلب بالكامل أو كسر المعارضة تماماً باعتبارها ستكون خسارة لتركيا ليس فقط لهذه الفصائل.

ذلك أن خروج إدلب تماماً من سيطرة المعارضة وعودتها لسلطة النظام ستكون في حال حصلت خسارة ميدانية ستنعكس بالضرورة على طاولة التفاوض والمسار السياسي الذي سيرسم مستقبل سوريا، فضلاً عن أنه قد يترك وجود القوات التركية في منطقتي درع الفرات وعفرين محطّ تساؤل واعتراض مستقبلاً من النظام السوري وروسيا.

تدرك موسكو بالضرورة كل ذلك، وأنها لا يمكنها حسم إدلب نهائياً دون كلفة باهظة جدّاً واحتمالات كارثية لا تريدها، وتدرك كذلك ما كسبته من تفاهماتها مع تركيا على صعيد الخلافات داخل الناتو كما على صعيد القضية السورية، لكنها تبدو ماضية في الضغط على أنقرة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب في إدلب خصوصاً، والملف السوري عموماً.

ولذلك لم يسفر التواصل بين عسكريِّي الجانبين عن تقدم ملموس، وكذلك الاتصال الهاتفي بين أردوغان وبوتين، ما دفع الأول إلى ترتيب زيارة للثاني في موسكو يوم الثلاثاء.

ولئن أكّدَت الزيارة فشل التواصل الأولي بين البلدين لضبط الأمور في إدلب ووقف تقدُّم النظام، إلا أنها قد تحمل بوادر تهدئة وتبريد للجبهة، ولكن هذه المرة بشروط جديدة ووفق تفاهمات مختلفة عن السابقة.

بيد أن إمكانية نجاح القمة الثنائية في كبح جماح التطورات الميدانية من جهة، ومدى التنازلات التي قد يقدّمها الطرفان من أجل ذلك، تبقى رهينة الرغبة الروسية في هذه المرحلة.

وبغضّ النظر عمَّا يمكن أن تسفر عنه القمة الثنائية، ثم القمة الثلاثية بمشاركة إيران في الـ16 من سبتمبر/أيلول المقبل في أنقرة، فإنه لا ينبغي تجاهل الشرخ الكبير الذي تعرضت له التفاهمات التركية-الروسية في سوريا، فضلاً عن خيبة الأمل التركية من موقف روسيا التي تقصد إحراجها في إدلب بشكل غير مسبوق منذ بداية مسار أستانا.

ولعل ذلك مما يؤكد أن التفاهمات التركية-الروسية تكتيكية وتتغذى على الخلافات التركية-الأمريكية والتركية-الأطلسية. لكن هذا لا يعني -بطبيعة الحال- أن أنقرة مخيَّرة بين علاقات طيبة مع واشنطن أو موسكو ولا أنها ستُضطرّ يوماً ما إلى المفاضلة بينهما، فذلك منطق الحرب الباردة الذي لم يعُد قائماً.

ما زالت تركيا راغبة وقادرة على التعامل مع مختلف الأطراف دون الانحياز الكامل أو الاستعداء التامّ وبما تمليه عليها مصالحها، لكن وفق رؤية أكثر وضوحاً لبوصلة سياستها الخارجية.

أما ملفّ إدلب فسيبقى في إطار الشد والجذب والتقدم البطيء للنظام إلى حين توصُّل الأطراف الدولية والإقليمية إلى تفاهمات يمكنها تجاوز جمود الحالة الراهنة وتقاطع المصالح والأهداف على الأرض السورية.

لذلك تبدو قمة أردوغان-بوتين معنيَّة بمسار العلاقات/التفاهمات بين أنقرة وموسكو التي تمرّ اليوم باختبار إدلب أكثر من إدلب نفسها، رغم أن الأخيرة ستستفيد -ولو مؤقتاً- بشكل نسبي في حال توصُّل الطرفين إلى تفاهم ما، وهو أمر تبقى احتمالاته أكبر من الفشل وتعميق الهوة بين الطرفين.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

عملية تركية جديدة شمال العراق.. ما علاقتها بالمنطقة الآمنة؟

المقالة التالية

الجيش التركي قريبا إلى "شرق الفرات".. عملية عسكرية أم اتفاق؟

المنشورات ذات الصلة