تركيا: انتخابات بلدية بنكهة استفتاء
TRT عربي
لا أحد في تركيا، وخصوصاً الأحزاب السياسية، يتعامل مع المعركة الانتخابية الحالية باعتبارها انتخابات محلية وبلدية فقط. فرغم أن أكثر من 57 مليون ناخب سيتوجهون يوم 31 آذار/مارس الحالي لاختيار رؤساء بلديات ومخاتير أحياء، إلا أن السياق والحملات الانتخابية وارتدادات النتائج المتوقعة تحيل إلى ما يشبه الاستفتاء على النظام السياسي القائم والأحزاب السياسية وقياداتها.
هذه الانتخابات، التي تجرى على هامش الأزمة المالية التي تعرضت لها البلاد الصيف الفائت وما زالت تتعافى منها، هي المحلية/البلدية الأولى بعد إقرار ثم سريان النظام الرئاسي الذي انقسمت الأحزاب السياسية على إثره إلى محورين ما زالا ماثلين حتى اليوم. ولعلها المرة الأولى في التاريخ السياسي للبلاد التي تخوض فيها الأحزاب السياسية الانتخابات المحلية ضمن تحالفات، حيث يواجه تحالف الجمهور المكون من حزبي العدالة والتنمية تحالف الأمة المكون من حزبي الشعب الجمهوري والجيد، مع تأييد ضمني وغير معلن من حزب الشعوب الديمقراطي للأخير.
من أهم الدلالات السياسية والحزبية للانتخابات شبه غياب المرشحين المستقلين رغم أنها الأنسب لهم والأكثر تناغماً مع البعد الفردي والشخصي للمرشحين، إضافة لاختيار مختلف الأحزاب السياسية لمرشحيها للانتخابات البلدية من بين أنجح رجالها وأحياناً من قيادات الصف الأول فيها كما فعل العدالة والتنمية مثلاً في بلديات إسطنبول وأنقرة وإزمير، فضلاً عن قيادة رؤساء الأحزاب للحملات الانتخابية لمرشحيهم وتصدرهم كل المهرجانات الانتخابية بشكل ملحوظ.
الأهم على الإطلاق هو الخطاب السائد في الحملات الانتخابية إلى جانب الوعود الانتخابية التقليدية المتعلقة بالخدمات المقدمة للمواطن والتنافس على تطوير المدن والبلديات بشكل عام. حيث ترى المعارضة أن صناديق الاقتراع ستأتي لها بالبُشْريات التي ستكون بداية نهاية حكم العدالة والتنمية من وجهة نظرها، معتمدة على عدة نماذج في التاريخ التركي الحديث تشير إلى أن تغير نتائج الانتخابات البلدية يكون عادة بداية تبدل موازين قوى الأحزاب في الانتخابات البرلمانية، ولذلك يرفع حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة شعار “بعد آذار يأتي الربيع”.
في المقابل، يرفع تحالف الجمهور المكون من العدالة والتنمية والحركة القومية شعار “بقاء تركيا” الذي يحيل إلى “خطر وجودي” يتهددها في حال حدثت متغيرات مهمة في نتائج الانتخابات البلدية، باعتبار أن هذا التحالف – عكس منافسه – يواجه الضغوط الخارجية والمنظمات الإرهابية في الداخل والمنطقة على حد سواء، وهو معنى يتخطى بمراحل فكرة انتخابات بلدية وإدارات محلية.
ولأهمية هذه الانتخابات وخطورة نتائجها وتداعياتها، ثمة تسابق بين الأحزاب المختلفة على استثمار العاطفة الدينية للناخبين ربما لأول مرة منذ سنوات طويلة، حيث ورد على لسان أكثر من قيادي في العدالة والتنمية فكرة صوت الاقتراع “الذي قد يكون شفيعاً لصاحبه يوم القيامة”. في المقابل، زار مرشح الشعب الجمهوري (علماني الهوية وذو التاريخ الشائك بخصوص العلاقة مع الدين) لبلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو مسجد أيوب التاريخي الشهير وتلا آيات من القرآن الكريم “على أرواح شهداء مجزرة المسجدين في نيوزلندا”.
أخيراً، ورغم أنها انتخابات للمحليات والبلديات بما يجعل أي نتيجة ل،ها، مهما كانت، بعيدة عن إمكانية التأثير على النظام السياسي أو الاستقرار أو عمل الحكومة، إلا أن ارتداداتها قد تفتح الباب على تحديات كبيرة على الحزبين الرئيسين في البلاد، العدالة والتنمية والشعب الجمهوري.
على صعيد الثاني، يبدو أن الانتخابات المقبلة ستكون الفرصة الأخيرة لرئيسه كمال كليتشدار أوغلو الذي خسر عَشر منافسات انتخابية متتالية أمام اردوغان والعدالة والتنمية، حيث يهدد منافسُه المرشحُ الرئاسي السابق محرم إينجة علانية بأن فشله في هذه الانتخابات ينبغي أن يكون كافياً للدعوة لمؤتمر استثنائي للحزب لاختيار رئيس جديد بديل لكليتشدار أوغلو سيكون هو بنفسه أهم المرشحين له.
أما العدالة والتنمية، الذي شكلت البلديات أول منابر تعرف المواطن التركي عليه وإحدى أهم بصماته ومساحات تميزه، فثمة تقديرات كثيرة بأن بعض قياداته السابقة بقيادة الرئيس السابق عبدالله غل تنتظر نتائج الـ 31 من الشهر الجاري لتحدد موعد إعلانها عن حزب سياسي جديد ينافس العدالة والتنمية. وعليه، وبناء على هذه التقديرات، فإن خسارة الحزب الحاكم لعدد من البلديات وخصوصاً تلك التي تحمل رمزية معينة – مثل العاصمة أنقرة – ستعتبر مؤشراً على تراجع شعبيته وبالتالي فرصة لولادة منافس جديد له على الساحة السياسية التركية.
وعليه، ختاماً، رغم أنها انتخابات محلية وبلدية في ظل نظام متماسك وأوضاع داخلية مستقرة حتى عام 2023 على أقل تقدير، تحمل الانتخابات المقبلة دلالات سياسية واضحة خصوصاً في حال أسفرت نتائجها عن مفاجآت غير متوقعة، لا سيما فيما يتعلق بالحزبين الرئيسين في البلاد، العدالة والتنمية الحاكم والشعب الجمهوري المعارض، ما يجعلها انتخابات بلدية بنكهة استفتاء شعبي على شعبية وتأييد الحزبين ورئيسيهما.