احتفال بذكرى الحرب العالمية الأولى واستعداد للثالثة؟
عربي 21
قبل أيام، استضافت العاصمة الفرنسية احتفالاً بذكرى إعلان الهدنة في نهاية الحرب العالمية الأولى حضره حوالي 70 رئيساً من مختلف دول العالم. الشعار الذي يرفع عادة في هكذا مناسبات احتفالية هو استخلاص دروس الحرب والتأكيد على أهمية السلم الدولي والتعاون بين مكونات المجموعة الدولية، لكن المضمَر والمفهوم ضمناً هو احتفال المنتصرين بانتصارهم الذي أهلهم بطبيعة الحال ليكونوا دولاً “عظمى” في النظام الدولي المتشكل.
الطريف واللافت في آنٍ معاً أن الاحتفال والاحتفاء بنهاية الحرب العالمية الأولى يأتيان في وقت تزداد فيه نقاشات النظام الدولي وأزماته من جهة واحتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة من جهة أخرى. قد يبدو ذلك من باب المبالغات أو التلاعب بالألفاظ لا أكثر، لكن الحال ليست كذلك أبداً ولها شواهدها، خصوصاً إذا ما أخذنا السياق التاريخي بعين الاعتبار.
كانت الحرب العالمية الأولى إرهاصاً مهماً للنظام الدولي الذي تشكل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بحيث انهارت معها امبراطوريات وترسخت فكرة الدولة القومية الحديثة وكانت الدول المنتصرة فيها الأقوى على الساحة الدولية حتى الحرب الثانية، التي تشكل في نهاياتها نظام ثنائي القطبية مع تفوق ملحوظ للكتلة الغربية.
مع انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة في تسعينات القرن الماضي، تبدت ملامح نظام دولي جديد تقوده الولايات المتحدة وأداته الأهم حلف شمال الأطلسي (الناتو) وهو نظام اعتبر انتصاراً نهائياً للنموذج الليبرالي الديمقراطي (الغربي) أي ما اعتبره فرانسيس فوكوياما “نهاية التاريخ”. في ذلك الوقت، كان القيادة للولايات المتحدة بلا منازع، والتنسيق بين طرفي الأطلسي أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في ذروته، وكادت الأمم المتحدة أن تغيب وتدخل تحت جناح حلف الناتو الذي لعب دورها في أكثر من أزمة، حين كانت روسيا والصين أبعد ما تكونان عن المنافسة واللحاق بالركب.
اليوم، يبدو أن هناك متغيرات جذرية على هذا النموذج الذي لم يصمد كثيراً على أي حال، وبات جلياً للكثيرين أن الحديث عن نظام أحادي القطبية حمل الكثير من التسرع وشيئاً من المبالغة، ولعل من المفارقات الواضحة أن أهم المتغيرات الضارة بهذا النظام اليوم أتت على يد من يفترض أنه يقوده، أي الرئيس الأمريكي.
لا يكتفي دونالد ترمب، رجل الأعمال والإعلام الذي دخل البيت الأبيض دون المرور في دهاليز السياسة، باستهداف أسس النظام الدولي لكنه يمعن في نقض عرى التحالف الأمريكي – الأوروبي الذي ساد واستمر منذ الحرب العالمية الثانية. فتحت شعار “أمريكا أولاً” قدم ترمب رؤيته الانعزالية التي تتخطى ما يسمى “القيم الأمريكية” التي أرادت لها واشنطن أن تكون منظومة عالمية، فضلاً عن العقوبات الاقتصادية ورفع الرسوم على عدد من الدول في مقدمتها الصين اعتبرت “حرباً اقتصادية” على نطاق واسع، والسياسات الاقتصادية والسياسية الحمائية التي انتهجها. فإذا ما أضيف لها الانسحاب من اتفاق الشراكة عبر الهادئ وتراجع واشنطن عن عدد كبير من التزاماتها الدولية للانكفاء على الداخل، يكون لصورة زعماء منظمة G7 الشهيرة في مواجهة ترمب مدلولات هامة.
أكثر من ذلك، فقد قدم الرجل خطاباً ودعمه بسياسات وقرارات تصب في اتجاه تراجع قوة التحالف مع الأوروبيين. فالانسحاب من اتفاق الشراكة عبر الأطلسي والجنوح نحو تخفيض المساهمة الأمريكية المالية في حلف الناتو والتقليل من أهمية الحلف في خطابات الرئيس الأمريكي غذت المخاوف الأوروبية إلى حد غير مسبوق، ما جدد فكرة “جيش الدفاع الأوروبي” التي طرحها الرئيس الفرنسي ماكرون مؤخراً. وبغض النظر عما إذا كان ذلك الحديث رسالة ضغط على الولايات المتحدة أم رغبة حقيقية في بناء منظومة دفاع “أوروبية” خالصة، فإنه يشير بكل وضوح لتراجع الثقة الأوروبية بالولايات المتحدة ومظلة “الأطلسي” في عهد ترمب.
إذن، ذلك النظام الدولي الآخذ بالتشكل منذ نهاية الحرب الباردة لم يستقر بعد على شكل محدد ولا على أي نوع من الاستقرار، بل لعله دخل في مرحلة جديدة في ظل الهواجس التي تسكن ضفتي الأطلسي، وفي ظل تقدم كل من الصين وروسيا اقتصادياً وعسكرياً على الساحة الدولية خلال السنوات الأخيرة.
وعليه، ينبغي الإشارة إلى أن معظم العوامل التي ساهمت في ثلاثينات القرن الماضي في نشوب الحرب العالمية الثانية حاضرة بدرجة أو بأخرى في المشهد الدولي اليوم. تصاعد الأحزاب والتيارات اليمينية، ودرجة معينة من سباق التسلح، والأزمات الاقتصادية العالمية، والقيادات الشعبوية والمغامِرة، والصراعات الدولية التي تتضمن احتكاكات مباشرة بين القوى العظمى، وتراجع أهمية ودور المنظمات الدولية (وخصوصاً الأمم المتحدة) ومرجعيات حل الأزمات، كلها عوامل ماثلة اليوم للعيان وتشعل نذر الخطر.
في ظل هذا كله، ومع ترمب في المكتب البيضاوي الأكثر تأثيراً في السياسة الدولية، ومع حالة الغموض واللايقين عالمياً، يصبح الصعود السريع للصين والذي بدأ اقتصادياً وبدأ استثماره سياسياً وعسكرياً والتقاط روسيا أنفاسها مع بوتين وعودتها لحالة الندية السياسية والعسكرية مع الكتلة الغربية، يصبح كل ذلك مرحلة تدافع قد تؤدي لنشوء نظام دولي متعدد الأقطاب (وإن بقي التفوق النسبي فيه للولايات المتحدة) وإما إلى سيناريو الحرب.
لا نقول إن سيناريو الحرب حتمي ولا مناص منه ولا حتى أنه الاحتمال الأوفر حظاً، فضلاً عن أن حرباً إن وقعت لن تكون بالتأكيد على شاكلة الحربين الأولى والثانية بالضرورة، ولكن سيناريو المواجهة قائم وله فرصه ومخاطره بكل تأكيد، بل وله بعض الشواهد التي لا تخطئها العين.
في كتابه “النظام العالمي” يرى هنري كيسنجر النظام الدولي اليوم ضمن ثنائية قوة عظمى راسخة ومهيمنة مقابل أخرى صاعدة ومنافسة، أي الولايات المتحدة والصين، ويقول – ناقلاً عن دراسة مسحية لجامعة هارفارد – إن هذا النموذج تكرر في التاريخ 15 مرة، 10 منها حسمت عن طريق المواجهة العسكرية.
ربما ستحمل لنا السنوات القادمة الكثير من الأدبيات والكتابات الأكاديمية عن “الترمبية” أو “أثر ترمب” على السياسة الخارجية للولايات المتحدة وعلى النظام الدولي، لكن من المهم التنبه لأمرين مهمين في هذا السياق: أن ترمب ليس بالضرورة “سبباً” وإنما هو من زاوية ما “نتيجة” لعوامل متشكلة ومتفاعلة منذ فترة طويلة، وأن خليفته في حال عزله (مثلاً) نائبه مايك بنس ليس مختلفاً عنه في الأفكار والتوجهات وإنما هو أكثر تشدداً منه، وبالتالي فالتأثيرات التي نتحدث عنها مؤسسية وموضوعية أكثر منها شخصية أو ذاتية، أي أنها ليست مرشحة لأن تختفي أو تتراجع بالضرورة أو بسرعة مع غياب ترمب أو تغييبه.