“صفقة القرن و”يهودية الدولة”: ملامح مرحلة جديدة
عربي بوست
على مدى الأسابيع والأشهر الفائتة، تركزت النقاشات في الأوساط السياسية والإعلامية الفلسطينية على مصطلح “صفقة القرن” بخصوص القضية الفلسطينية، والتي ورد ذكرها على لسان ترمب ومن قبله قادة دول عربية وازنة.
المصطلح، الذي تعرف عليه الفلسطينيون من خلال تسريبات وسائل الإعلام ولم يطلعوا بعد على تفاصيله الدقيقة، تعامل معه بعضهم على أنه اتفاق ما سيحتاج لطرفين أحدهما فلسطيني والآخر “إسرائيلي”، ورآه بعضهم الآخر على أنه حزمة أفكار وإجراءات أمريكية – “إسرائيلية” لتصفية القضية وإنهاء الصراع دون أن تتبلور بعد بالضرورة في إطار جامع، وفهمه البعض الآخر على أنه توافق أمريكي – “إسرائيلي” – عربي على مسار لحل أو تصفية القضية الفلسطينية بالالتفاف على الطرف الفلسطيني واستبعاده وهو بالتالي مسار مكمّل لمسار التطبيع العربي السائر مع الكيان الصهيوني.
وأياً يكن من أمر وبغض النظر عن التفصيل الدقيق لمصطلح “صفقة القرن”، تبدو الفصائل الفلسطينية المختلفة متفقة على المخاطر غير المسبوقة التي تتعرض لها القضية الفلسطينية في ظل إدارة ترمب والواقع العربي الضعيف والمشتت والضاغط على الفلسطينيين والسياسات “الإسرائيلية” المقوِّضة لكل الحقوق الفلسطينية.
وفي خضم النقاش الدائر حول صفقة القرن، أقر الكنيست “الإسرائيلي” مؤخراً “قانون القومية” أو قانون “يهودية الدولة” الذي نقل العنصرية الصهيونية ضد الفلسطينيين داخل المناطق المحتلة عام 1948 من الإطار العملي التطبيقي إلى الإطار القانوني الدستوري.
بيد أن موضوعة “العنصرية” ليست الأهم في مقاربة هذا القانون، فلم تكن يوماً “المواطنة المتساوية” مطلباً لأولئك الفلسطينيين وإن كانت – اضطراراً – عنواناً لنضال بعضهم باعتبارها مساراً آمناً وقانونياً. فالنضال الفلسطيني بمختلف أشكاله يسعى لهدف واحد مشترك وهو مواجهة المشروع الصهيوني وتحرير الأرض وإعادة أصحابها إليها.
أقول ليست العنصرية هي العنصر الأهم لمقاربة القانون وإنما موقعها في سياق المشروع الصهيوني. ففي حين ما زال بعض الفلسطينيين مصرّين على مسار أوسلو الذي تتفق كل الأطراف على اندثاره منذ سنوات عديدة، ويصر بعض العرب على “المبادرة العربية للسلام” التي قال عنها الصهاينة إنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به، ينتقل المشروع الصهيوني خطوة جبارة للأمام باتجاه تحقيق هدفه الاستراتيجي الرئيس: السيطرة على كامل فلسطين بادعاء الحق الكامل فيها ونفي أي وجود فلسطيني عليها.
جزء من المخاطر تتعلق بفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948، بمزيد من الإجراءات والسياسات العنصرية الضاغطة عليهم، واستمرار مشروع تهويد القدس وإفراغها من أهلها، واحتمالات تفعيل مشاريع “الترانسفير” والوطن البديل وغيرها من المشاريع التي تهدف لاقتلاعهم من جذورهم وجعل “إسرائيل” فعلاً وطناً لليهود فقط وعلى كامل الأرض الفلسطينية. وهذا يعني أن الوجود الفلسطيني داخل ما يسمى الخط الأخضر قد انتقل تلقائياً وبشكل إجباري إلى مرحلة جديدة من مواجهة المشروع الصهيوني، شاء أو أبى تنبه لذلك أم ما زال في طور التفكير.
الجزء الآخر المتعلق بمخاطر القانون – ضمن سياقاته – هو أنه يطوي تماماً ونهائياً أي فكرة متعلقة بحل الدولتين – فضلاً عن مسار أوسلو – أو حل الدولة أو أي حل من أي نوع “مع” الفلسطينيين. الرؤية الصهيونية المتوافقة مع رؤية ترمب وأركان إدارته أن الظروف الفلسطينينة والعربية والإقليمية مناسبة جداً لفرض حقائق جديدة ونقل المشروع الصهيوني نقلة مهمة، وبالتالي فليس هناك بحث عن أي “حل” من أي نوع كان.
وفي هذا الإطار يمكن فهم قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ووقف المساهمة الأمريكية في تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). ذلك أن ملفي القدس واللاجئين هما العقبتان الأهم أمام أي جهود لتصفية القضية الفلسطينية ولذلك فقد عمد ترمب إلى “رفعهما عن الطاولة”، بحيث يمكن بعد التخلص منهما فرض بعض المسارات الإجبارية على الفسطينيين بعد تقويض الأعمدة الرئيسية التي تقوم عليها القضية. وهي تفاصيل تعيد إلى الذاكرة بعد التفاهمات والمذكرات التي أبرمها بعض الفلسطينيين مع أطراف “إسرائيلية” قبل سنوات طويلة جداً.
إذن، فالمشروع الصهيوني يفرض حقائق مختلفة وينتقل لمرحلة جديدة للسيطرة على فلسطين كل فلسطين، وفي المقابل “قد” يمنح الفلسطينيون نوعاً من الإدارة الذاتية على ما تبقى من الضفة مقطعة الأوصال أو على غزة. فماذا على الفلسطينيين فعله؟
المنطق السياسي والوطني البسيط والمباشر يقول إنه على الفلسطينيين التعامل مع المرحلة الجديدة وفق مفرداتها المستحدثة ومواجهة المشروع الصهيويني بأدوات قادرة على ذلك ورفض المسار الحالي والعمل على إفشاله. هنا تبرز عناوين مهمة لا مناص منها، في مقدمتها توحيد الصف الفلسطيني على مشروع وطني واضح يجمع الجميع، وإصلاح النظام السياسي الفلسطيني بأسرع ما يمكن ليستعيد مشروعيته وقوته، وطي صفحة أوسلو تماماً والبدء بمرحلة جديدة، ومواجهة كل مشاريع تجزئة القضية وتحويلها إلى “ملفات” كنفصلة عن بعضها البعض، وإطلاق مرحلة مواجهة شاملة مع الكيان الصهيوني وفق ما تتيحه الإمكانات ويفرضه الواقع وتطويره مع الوقت، هذا في حال صدقت النوايا برفض صفقة القرن ومواجهتها.
لكن القرارات الأخيرة التي صدرت عن “القيادة” الفلسطينية تقول بعكس ذلك تماماً. إدارة ظهر كاملة لمسار المصالحة، وتعيينات في الحكومة واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وفق عقلية الهيمنة والاستحواذ، ودعوات لاجتماعات هامة “بمن حضر” وبالاستغناء عن أي أطراف رافضة أو متحفظة بما في ذلك فصائل رئيسة مؤسسة لمنظمة التحرير، وتسريبات عن “قرارات استثنائية” تحجب الشرعية وتمنحها لمن تريد وفق معايير اعتباطية أو مصلحية.
فأين كل ذلك من مفهوم الخطورة الاستثنائية التي تمر بها القضية الفلسطينية وهي على مشارف تصفيتها؟ وأين ذلك من الخطوات الضرورية المطلوبة لتقوية الفلسطينيين أمام ما ينتظرهم؟ هل يدرك صانع القرار الفلسطيني أنه بهذه القرارات يساهم في تنفيذ ما سميت بـ”صفقة القرن” وإن أعلن عكس ذلك؟ إن لم تكن القرارات الأحادية والإقصائية التي تفرّق ولا تجمع والقرارات الموجهة داخلياً وطي صفحة المصالحة وتوسيع الهوة بين غزة والضفة وتعميق أزمة الثقة في المعادلة الداخلية الفلسطينية، إن لم يكن كل ذلك خدمة مجانية تساهم في بلورة وتحقيق الأفكار والمسارات التي تسعى لتصفية القضية الفلسطينية فماذا تكون؟ وعليه، فإن كان من اتخذ هذه القرارات غير مدرك لذلك فتلك مصيبة، وإن كان مدركاً فالمصيبة أعظم.
إن المعنى الأوضح الذي ينبغي التركيز عليه اليوم، هو أننا إزاء مرحلة جديدة لا يمكن التعامل معها بنفس مفردات الماضي (أوسلو وأخواتها) ولا يمكن مواجهتها وإفشالها بهذه الطريقة والقرارات. يحتاج الفلسطينيون – مرة أخرى – لمشروع جديد جامع لمواجهة المشروع الصهيوني، ليس فقط جامعاً للفصائل الفلسطينية ولكن جامعاً للكل الفلسطيني في غزة والضفة والأراضي المحتلة عام 1948 والشتات. أما وأن القرارات الأخيرة تصب في المسار العكسي، فلا فرق كبيراً هنا بين التعمد وعدمه، إذ يؤدي كلاهما إلى نفس النتائج.
في المقابل، فإن “الترتيبات الإنسانية” التي يتحدث عنها مؤخراً بخصوص قطاع غزة حق لأهلها وسكانها، ولكن بشرط عدم تحويل القضية من سياسية إلى إنسانية، وبالحذر من المآلات والأهداف بعيدة المدى التي تريدها بعض الأطراف مثل الفصل والتجزئة، وهذا يتطلب جهداً استثنائياً في هذا الخصوص، لا يتسع المقال الحالي لتناوله بالتفصيل.