الرؤية التركية لأحداث المنطقة وتطوراتها
الجزيرة نت
في حديثه أمام كتلة حزبه البرلمانية قبل أيام، قال الرئيس التركي رجب طيب اردوغان إن “التطورات في المنطقة ليست عشوائية، بل هي سيناريو سيحدد شكلها ومصيرها لقرن قادم”. جملة قصيرة، لكنها عميقة الدلالة وغنية المعاني تكاد تختصر الرؤية التركية للمتغيرات المتسارعة في المنطقة مؤخراً.
مراجعة السياسات
ورث العدالة والتنمية في 2002 دولة تعاني من أزمات سياسية واقتصادية مركبة ومعقدة، ومنكفئة على نفسها إلى حد بعيد، وتبحث عن مكان لها في النظام العالمي الآخذ بالتشكل بعد نهاية الحرب الباردة.
وسار الحزب في سياسته الخارجية وفق رؤية واضحة تدفع باتجاه الاهتمام بالجوار القريب في سبيل تأمين مكانة إقليمية ودولية لائقة (العمق الاستراتيجي)، وحل الأزمات الكثيرة مع دول الجوار لضمان سياسة خارجية نشطة وفاعلة (تصفير المشاكل)، والاعتماد على مبدأ الربح للجميع في التعامل الاقتصادي والتجاري والتلاقي الثقافي والفكري (القوة الناعمة)، وهي أهم النظريات التي دونها أحمد داود أوغلو – مهندس السياسة الخارجية التركية لسنوات طويلة – في كتابه الأشهر “العمق الاستراتيجي”.
وقد حققت تركيا خلال السنوات التسع الأولى من عهد العدالة والتنمية اختراقات مهمة في سياستها الخارجية وحظيت بقبول جيد في المنطقة على المستويين الشعبي والرسمي ومن قبل المحورين البارزين في ذلك الوقت فيها: “الممانعة” و”الاعتدال”. إلا أن الثورات العربية التي أتت في ذروة الإنجازات الداخلية والمكانة الإقليمية والدولية لتركيا دفعتها للتخلي عن حذرها والمبادرة في سياسة نشطة راهنت على التغيير في المنطقة، وهو ما أدخلها في نطاق الاستقطاب الواسع في المنطقة.
ومنذ 2015، تخضع سياسة أنقرة الخارجية لعملية إعادة تقييم وتوجيه لعدة أسباب وعوامل، أهمها التحولات في المنطقة والضغوط الخارجية عليها وتوترعلاقاتها الأوروبية والأمريكية والأجندة الداخلية الضاغطة والتي توجت بالمحاولة الانقلابية الفاشلة صيف 2016.
وبنتيجة هذه المراجعة، تتجه تركيا لتدوير زوايا الخلاف مع بعض الدول، وبناء شراكات إقليمية ودولية مثل تفاهماتها وتعاونها مع كل من روسيا وإيران وقطر، وإضافة شيء من القوة الخشنة ومزجها مع القوة الناعمة المعتمدة حصراً قبلاً من قبيل زيادة التصنيع العسكري المحلي وبناء القواعد العسكرية في قطر والصومال والعمليات العسكرية خارج حدودها (مثل درع الفرات).
محاولات التوريط
خلال السنوات القليلة الماضية، شاب السياسة الخارجية التركية الكثير من الحذر والتوجس، وسادت لدى أنقرة مخاوف من “توريطها” في ملفات المنطقة على غير ما ترغب به، كما صرح بذلك أكثر من مسؤول تركي في حينها. ولعل ذلك أحد أهم أسباب البطء والمحافظة في مقاربة أنقرة لمختلف التطورات سيما في سوريا، وهو ما أفقدها الكثير من الفرص للتدخل والتأثير سابقاً.
رأت تركيا كيف تحولت الثورات العربية تحديداً إلى صراعات إقليمية ودولية بأدوات محلية أي حروب بالوكالة وفق خطة ممنهجة ومتدرجة ساهمت بها عدة قوى. الأمر الذي عزز رغبتها بعدم الانجرار لنزاعات غير محسوبة العواقب في كل من سوريا والعراق تحديداً، خصوصاً وأنها لم تكن تملك الأدوات الفاعلة من جهة ومعتمدة على القوة الناعمة حصراً من جهة أخرى ومشغولة بالتحديات والأزمات والضغوط الداخلية والخارجية من جهة ثالثة.
التاريخ الحاضر دوماً في ذهنية صانع القرار التركي كان يعيده دوماً إلى اتفاقية سايكس – بيكو التي رسمت حدود دول المنطقة، والتي تحاول القوى الدولية إعادة إحيائها في مئوية ذكراها بتقسيم المقسَّم وتجزيء المجزّأ. تدرك تركيا إن تقسيم سوريا أو العراق اليوم يعني تقسيمها هي غداً أو بعد غد، ومفتاح ذلك الملف الكردي في المنطقة الذي دخلت على خطوطه الحساسة القوى الدولية المختلفة، الأمر الذي علق جرس الإنذار بالنسبة لأنقرة.
وتقول المقاربة التركية إن إنشاء دولة أو دويلة على أسس عرقية شمال سوريا أو العراق مدعاة للفوضى والصراعات البينية على أسس عرقية، سيما إن كان رائد المشروع حزب الاتحاد الديمقراطي – الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني – ما يجعل الملف برمته أمناً قومياً وشاناً داخلياً تركياً بامتياز.
بيد أن المحاولة الانقلابية الفاشلة وتمدد المشروع الكردي على حدود تركيا الجنوبية دفعاها للتخلي عن الحذر وانتهاج سياسة مبادِرة، تمثلت في عملية درع الفرات ثم التفاهمات مع روسيا ثم مسار أستانا والإطار الثلاثي الراعي له.
اليوم، تنظر أنقرة لتطورات المنطقة المتسارعة بشكل غير مسبوق على أنها أزمات مترابطة ومخطط لها لأهداف معروفة وليست عشوائية كما أكد الرئيس التركي. الانقلاب في تركيا، حصار قطر، استفتاء كردستان العراق، التطورات في السعودية والخليج، التوتر المذهبي والطائفي، إضافة لتسارع الأحداث في كل من سوريا والعراق، أزمات تشترك في أنها صراعات محلية – بينية مدفوعة أو مدعومة أو مخطط لها من قوى خارجية تريد إشغال المنطقة وفواعلها بصراعات داخلية صفرية لا تبقي فيها ولا تذر، وفق ما تراه أنقرة.
والصفة الثانية التي تشترك بها مختلف تطورات المنطقة من وجهة نظر تركيا أنها تستهدفها هي أيضاً في مآلاتها، إما بالإضعاف أو التوريط أو الضغط أو التقسيم. ومن دلائل ذلك أو القرائن الدالة عليه تزامنها مع انتهاجها سياسة خارجية تعتمد الاستقلالية والمرونة والتوازن قدر الإمكان، وهو ما كان من أهم أسباب توتر علاقاتها مع حلفائها الغربيين التقليديين في أوروبا والولايات المتحدة.
الرؤية المستقبلية
دفع هذا الأمر تركيا لإعادة تقييم سياستها الخارجية وترتيب أولوياتها، ثم الاعتماد على قدراتها الذاتية قدر الإمكان، وبناء شراكات وتفاهمات مع بعض القوى الفاعلة في مختلف الملفات. يقول اردوغان إن “تركيا، وربما للمرة الأولى منذ حرب الاستقلال، تدخل هذه المرحلة الحرجة بما حددته بإرادتها الذاتية وليس وفق الدور المرسوم لها في السيناريوهات المعدة مسبقاً”.
في سوريا، تبدو أنقرة وقد حددت لها ثلاث أولويات: إنهاء الصراع بحل يرضي الأطراف لوقف استنزاف الجميع، منع فكرة الدويلة الكردية، وضمان وحدة الأراضي السورية، وتعمل لتحقيق هذه الأهداف من خلال علاقاتها بالمعارضة السورية ومشاركتها كضامن في مسار أستانا وتواجدها المباشر على الأرض السورية. ومن جهة أخرى، تتجه بوصلة تركيا نحو الشرق أكثر فأكثر، بينما تراهن على أن النظام الرئاسي الذي سيبدأ تطبيقه في نهايات 2019 سيضمن نظاماً سياسياً أمتن وقراراً خارجيا ً أسرع وأقوى.
القوة الخشنة التي مزجتها تركيا مع قوتها الناعمة سمحت لها بقواعد عسكرية في العراق والصومال وقطر. وقد ساهمت تلك الأخيرة مع قرار البرلمان إرسال قوات إلى هناك – ضمن عوامل أخرى – في منع الخيار العسكري لحل الأزمة الخليجية في بداياتها، وتصعّب من اللجوء له لاحقاً.
ولعل المبادرة ومواجهة المنظمات المصنفة على قوائم الإرهاب التركية استباقياً وخارج حدود تركيا باتت من أسس سياستها الخارجية مؤخراً، إن كان على مستوى مكافحة التنظيم الموازي ومواجهة العمال الكردستاني داخلياً أو محاربة داعش وغيرها خارجياً.
الرؤية التركية المستقبلية تقول بضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية والعراقية، وتنادي بتجنيب المنطقة الصراعات البينية، وتسعى لتفاهمات تمنحها مرونة وتعدِّدُ أمامها الخيارات، وتنتهج القوة الخشنة إلى جانب الناعمة، وتحد من ضغط الأزمات المتزامنة عليها وعلى قراراتها. لكن العامل الرئيس في كل ذلك أن تركيا لم تعد تلك الدولة المتحفظة المنكفئة على نفسها، وإنما تبدو مبادِرة وسريعة ونشطة أكثر من أي وقت مضى، وفاعلة في مختلف قضايا المنطقة القريبة منها والبعيدة عنها، سيما ما يؤثر عليها بشكل مباشر مثل سوريا والعراق أو بشكل غير مباشر عبر حلفائها وأصدقائها مثل قطر، بما يعني أنها لن تكون بعيدة عن أي تطورات جذرية أو خطيرة تطرأ في هذه القضايا.
ترى تركيا أن الأحداث التاريخية نهر جارٍ لا يتوقف مساره، وبالتالي ينبغي دائماً تعديل التكتيكات للتماشي مع المرحلة وفق مقتضياتها ومدافعة الفواعل الأخرى، وهي البراغماتية التركية التي ساهمت في استمرار تجربة العدالة والتنمية رغم تراكم التحديات. بهذه الرؤية ترى تركيا أنها تحمي نفسها وتمنع استهدافها والإضرار بالمنطقة. ورغم الضغوط التي تمارس عليها والخسائر التي تكبدتها ويمكن أن تتكبدها، إلا أنها ترى ذلك جزءاً من حرب “الاستقلال الثانية” كما يسميها حزب العدالة والتنمية من جهة وترد الصاع صاعين لأعدائها وخصومها من جهة أخرى.
ولعل ذلك ما قصده اردوغان في كلمته حين ذكّر بالقول الشهير لمحمد باشا الصقلّي بأن ما فعله خصوم الدولة العثمانية في إحدى الحروب كان بمثابة “حلق للحيتها” بينما كان ردها “بتراً للذراع”، وأن اللحية المحلوقة تنبت ثانية بأغزر مما كانت، بينما الذراع المبتورة لا تنبت أبداً. ويرى اردوغان أن الحظر على تركيا في السر والعلن والأصفاد الموضوعة في أقدامها وازدواجية المعايير التي تواجَه بها هي “حلق لحية” بينما إفسادها هي للخطط المرسومة للمنطقة هو “بتر الذراع”.