الحداثة وهولوكوست مصر: مذبحة رابعة
المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
خلال قراءتي لكتاب “الحداثة والهولوكوست” لزيغمونت باومان، تملكتني فكرة واحدة وسيطرت علي تماماً من غلافه حتى غلافه الآخر، وهي المقارنة بين “الهولوكوست” ومذبحة رابعة العدوية بعد الانقلاب في مصر التي مرت ذكراها الرابعة بنا قبل أيام.
لا أتحدث هنا طبعاً عن المقارنة الكمية وإنما التشابهات الكبيرة في السياق والأسلوب والأدوات المستعملة، وتفسير كل ذلك من وجهة نظر اجتماعية/سوسيولوجية، وهو المنهج الذي اعتمده باومان في كتابه الأشهر.
لم يهتم عالم الاجتماع الألباني (اليهودي) بإثبات المحرقة أو الهولوكوست ولا أغرق نفسه في دوامة رصد الأرقام وحشو التفاصيل وسرد الأحداث. وإنما ركز جهوده وأبحاثه وأفكاره للإجابة على سؤالين اثنين: لماذا كان ممكناً أن تحصل جريمة بهذا القدر من الوحشية، وكيف يمكن منع أحداث مشابهة في المستقبل، مع نقد واضح للحداثة وفلسفتها ومنظومتها الأخلاقية – اللاأخلاقية بالأحرى – التي سمحت بحدوث الهولوكوست بل سهلته. حاول باومان تحليل سياقات وأسباب ومراحل وأدوات ووسائل المحرقة، التي باتت بهذا المعنى “نافذة من النوافذ وليس مجرد صورة على الجدار” على حد تعبيره.
ينقل باومان عن هربرت كلمان أن الوازع الأخلاقي ضد الفظائع العدوانية يميل إلى الاختفاء إذا تحققت شروط ثلاثة:
– تفويض استخدام العنف من خلال أوامر رسمية صادرة عن الجهات القانونية المعنية.
– تنميط العمل عبر الممارسات النظامية المنضبطة والتوزيع الدقيق للأدوار.
– تجريد ضحايا العنف من الصفات الإنسانية.
ويتحدث الكاتب بشكل مفصل وفي فصول عديدة عن الخطوات المتدرجة التي أمكن من خلالها الوصول للمرحلة الأخيرة وهي الإبادة على يد أناس لا يفترض أنهم مجرمون بطبعهم، من التصنيف للتشويه للعنصرية للعزل وصولاً للإبادة.
الخطوة الأولى هي “التوصيف” و”التصنيف” بحيث يصبح جزء من الشعب أو مجموعة من البشر “آخر” بالنسبة لبقيته، آخر يختلف عنه بناء على معايير ومحددات تضعها السلطة السياسية أو متخذ القرار بطريقة مدروسة وذات أهداف محددة.
يتبع ذلك مرحلة “شيطنة” هذا الآخر ووصمه بكل الصفات السلبية والقبيحة بحيث يصبح مكروهاً و/أو مخيفاً للآخرين أو من يسمون بالمواطنين العاديين، وصولاً إلى صورة نمطية سلبية ثابتة ومكررة عن هذه الفئة تؤدي إلى حالة من الخوف المرضي (phobia). اللافت أن ذلك حصل رغم أن الكثيرين كان لديهم صورة ذهنية طيبة عن اليهود (وفق باومان) بسبب الاحتكاك اليومي والمعرفة الشخصية، لكن هذا “الآخر الشخصي” الذي يعرفونه قد تهشّم لصالح “الآخر المجرد” الذي صنعت صورته السلبية بعناية على يد السياسة والإعلام.
هذا الخوف المرضي سيتحول مع الوقت والإجراءات والتشويه إلى حالة من العنصرية، ليضحي هذا الآخر هو “الكائن المستباح” وفق القانون الروماني القديم، الذي هو كائن غريب وغير إنساني وعديم الفائدة ولذلك لا يُعاقب على قتله، ولأن الدولة الحديثة يمكن أن تصنع دائماً كائناً مستباحاً يمكن في المستقبل أن يشترك أناس غير فاسدين أو متحاملين في تدمير فئة مستهدفة من البشر.
يتحدث باومان عن السلبية والتجاهل من قبل “الألمان البسطاء” تجاه إقصاء اليهود، “إذ أصبح اليهودي في نظرهم كياناً غريباً سقطت عنه كافة السمات الشخصية وخرج من نطاق التعاطف الإنساني، وأصبحت “المسألة اليهودية” في نظرهم مسألة تقليدية تخضع لسياسة الدولة وتستوجب الحل”.
المرحلة اللاحقة هي العزل بحيث ينتفي الاحتكاك المولد للمشاعر الإيجابية وتتضائل الأخبار حول ما يحصل أو سيحصل، ثم تأتي أخيراً مرحلة الإبادة. ولعل من أهم شروط حصول الإبادة دون اعتراض ذي بال هو الشيطنة والتشويه، فكما تقول حنا آرنت عن المخيال الشعبي: الجريمة تستوجب العقاب، أما الرذيلة فلا بد من استئصالها.
ويشير الكاتب إلى أن التقسيم الوظيفي الناتج عن تدرج السلطة وهرمية اتخاذ القرار يخلق مسافة – حقيقية ونفسية – بين أغلب المشاركين في النتيجة النهائية للفعل الجماعي والنتيجة (المحرقة)، فمن يتخذ القرار لا ينفذ بيده بينما المنفذ لا يستشعر مسؤولية أخلاقية باعتباره أطاع الأوامر و”أدى” وظيفته على أكمل وجه، بعد أن تكون أهداف العملية البيروقراطية قد جُرّدت من الصفات الإنسانية.
تحدّث باومان عن استدراج السلطات الألمانية للجماعة اليهودية التي تعاملت “بعقلانية شديدة في بيئة من اللاعقلانية والفوضى” حتى فعلت تماماً ما كانت السلطات تريد منها فعله بالضبط. وفصّل في صمت بعض الجماعات اليهودية بل وتعاوُن بعضها الآخر مع النازيين، من أجل “الحفاظ على ما هو أهم”، أو لأنهم لا يملكون الشجاعة والنبل للاعتراض والمقاومة ففضلوا لوم الضحية استسهالاً، أو بحثاً عن “إعادة التصنيف” لإخراج أنفسهم من دائرة الاستهداف باعتبارهم من “اليهود الأشرار”، أو فقط إنقاذاً لأنفسهم بأنانية شديدة.
وتعمّق الباحث في شرح تجربة “ميلغرام” حول “أخلاقيات الطاعة” والتي كانت إحدى أهم استنتاجاتها قدرة أي إنسان “سويّ” على اقتراف أكبر الجرائم وأقسى درجات الإيذاء للغير إذا ما توافرت له سلطة – سياسية أو علمية – تتحمل عنه المسؤولية الأخلاقية وأوامر تحصر مهمته في التنفيذ بغض النظر عن النتائج، بعدما تكون مسافة حقيقية و/أو نفسية قد باعدت بينه وبينه الضحية وقرّبته لمتخذ القرار.
وفي فصل الكتاب الأخير يحذر عالم الاجتماع الفذ من الدراسات السطحية التي تقدم تفسيرات أحادية أو مبسطة/ساذجة للمحرقة، والتي “حرصت عليها المؤسسة اليهودية” لأنها تصب في معنى “الحاجة لوحدة اليهود وتضامنهم” أكثر من فهمهم لأسباب ما حصل وكيفية مواجهته و/أو منع تكرر حدوثه.
في أسباب الاهتمام العالمي الكاسح بالهولوكوست دوناً عن كل الجرائم التي اقترفتها الإمبرالية أو “الحضارة” الغربية، يشير المسيري رحمه الله إلى تفردها عن غيرها بكونها أول مذبحة غربية تنفذها الإمبريالية الغربية داخل أوروبا وبحق مواطنين غربيين، وتحيله جانينا باومان (عالمة الاجتماع، وزوجة زيجمونت) إلى الموارد الصهيونية الضخمة مالياً وإعلامياً وأكاديمياً.
إذن، لقد نجح اليهود في تثبيت ما حصل لهم على يد النازية كمحرقة أو هولوكوست، وبالغوا في أرقامها وأحداثها ومآسيها وتفاصيلها، ووصلوا لتجريم إنكارها في كثير من الدول الغربية، ليس فقط لمالهم وسطوتهم ولكن أيضاً لاهتمامهم وجهدهم وعملهم الدؤوب لأجل هذه الأهداف ومتابعتها والبناء عليها في جهد تراكمي ملحوظ. وهنا، في هذا الكتاب، يضيف زيغمونت باومان جهداً حقيقياً لتفسير الحدث وكيفية (وضرورة) العمل على عدم تكرره.
لستُ أرى حاجة لإسقاط كل الكلام السابق على ما حصل في رابعة وأخواتها، إذ أعتقد أن هذا الإسقاط أسهلَ ما يكون لمن يقرأ وفق هذه الرؤية وسيبدو مفهوماً لمن عاش الأحداث أو عايشها أو تابعها. لكن اليوم، بعد أربع سنوات على مذبحة رابعة، ما زلنا لا نجد توثيقاً حقيقياً للمجزرة ولا رواية كاملة متكاملة حولها ولا إحصاءً دقيقاً لضحاياها، فضلاً عن عمل قانوني سياسي دولي حقيقي يثبّت الحقوق ويفتح باب المساءلة.
يقول باومان “إنها مهمة الناجين من الهولوكوست أن ينقذوا العالم، وأن يحموه من كارثة يمكن أن تتكرر، وأن يمنعوا هتك عرض الحضارة مرة أخرى”. وأقول إن مهمة الناجين من رابعة وأخواتها أقل من ذلك بكثير وتقتصر على حماية أنفسهم وشعبهم وبلدهم مصر من أن تتكرر المجزرة أو أن ينجو مرتكبوها بفعلتهم دون حساب أو عقاب، وأول ما يجب فعله بعد التوثيق هو الدراسة والتحليل واستخلاص الدروس والعمل بناء على ذلك، كي لا تتكرر المذبحة.