تركيا ومحادثات أستانا: أهداف منشودة وسقف محدود

 

تركيا ومحادثات أستانا: أهداف منشودة وسقف محدود

الجزيرة نت

 

توجت تركيا مسار تقاربها مع روسيا في سوريا بإعلانهما دولتين ضامنتين في محادثات أستانا بين النظام والمعارضة السوريين، بعد عدة مراحل تمثلت في عملية درع الفرات ثم اتفاق إجلاء المسلحين والمدنيين من شرق حلب ثم إعلان موسكو بمشاركة إيرانية.

 

الطريق إلى أستانا

اعتبر الإعلان عن محادثات أستانا برعايةٍ و/أو ضمانة روسية وتركية مكسباً لدبلماسية الأخيرة وعودة لدورها الذي فقدته في الأزمة السورية لأسباب عديدة. ولذا، أظهرت أنقرة اهتماماً شديداً بالمحادثات وبذلت جهداً كبيراً لعقدها ثم إنجاحها ورفع سقف مخرجاتها قدر الإمكان.

كان قرار عملية درع الفرات إشارة واضحة إلى ذوبان الجليد بين أنقرة وموسكو وحصول الأولى على الضوء الأخضر من الأخيرة، وهو ما تطور لاحقاً مع الوقت للوصول إلى اتفاق عسكري أعلنت عنه قيادة الجيش التركي مؤخراً لإجراء طلعات جوية مشتركة بين الجانبين في مدينة الباب تحت سقف درع الفرات ومكافحة داعش.

ثم جاء اتفاق شرق حلب ليؤكد تغير السقف التركي في الأزمة السورية ويثبت مفهوم “الثنائي الروسي – التركي” الذي بدأ يتشكل في سوريا، سيما وأن أنقرة قد ظهرت خلاله وكأنها وسيط أكثر منها حليفاً للمعارضة كما كانت دائماً.

وتتويجاً لكل ذلك، كان “إعلان موسكو” إعلاناً عن مسار جديد وبديل لمسار جنيف لحل الأزمة السورية، وقد حرص الجانبان الروسي والتركي على بث الأمل في تحقيقه اختراقاً أكبر مما أحدثته لقاءات لافروف – كيري المتعددة، باعتبار أن كلاً من موسكو وأنقرة يملكان الجزء الأكبر من أوراق النظام والمعارضة على التوالي.

وقد نشطت الدبلماسية التركية على مدى الأيام والأسابيع التي تلت الإعلان وسبقت المحادثات على ثلاث محاور، التواصل المباشر مع موسكو لتثبيت المسار السياسي، واستثمار نفوذها لدى المعارضة لتثبيت وقف إطلاق النار، والاتصالات المتكررة مع طهران لضبط أداء النظام والميليشيات المرتبطة بها وهو ما يمكن اعتباره ضغطاً عليها وتحمليها مسؤولية انهيار التهدئة في حال حصلت بشكل غير مباشر.

 

أهداف ومصالح

تمثل محادثات أستانا محطة فارقة في عمر الأزمة السورية وفرصة لإمكانية الخروج من الوضع الحالي، لكنها تشتمل أيضاً على مصالح واضحة للدول الراعية لها في حال حققت الأهداف التي تريدها منها.

بالنسبة لتركيا، تخدم المحادثات عدة أهداف ومصالح أصيلة لها، أهمها:

أولاً، الحل السياسي والتهدئة الميدانية. فقد تطور الموقف التركي من الأزمة السورية مؤخراً نحو الدعم الواضح والثابت للحل السياسي واستحالة الحل العسكري، مروراً بالموافقة الضمنية على بقاء الأسد في الفترة الانتقالية، وصولاً إلى الموافقة العلنية الواضحة على ذلك، هذا إن لم نذْكُر تصريح نائب رئيس الوزراء التركي محمد شيمشك في منتدى دافوس بضرورة التخلي عن المطالبة برحيله حتى مستقبلاً من منظور “واقعي وبراغماتي مستمد من تغير الواقع الميداني”، وهو التصريح الذي تراجع عنه لاحقاً وقال إنه حُرِّف.

يمثل مسار الحل السياسي بعد التهدئة الميدانية مصلحة تركية مباشرة إذ يخفض من مستوى استنزافها في سوريا، ويمنحها إمكانية التركيز أكثر في عملية درع الفرات، فضلاً عن تقليله من الارتدادات السلبية على الداخل التركي أمنياً واقتصادياً.

ثانياً، تعميق التعاون مع موسكو. تمثل محادثات أستانا وما سبقها من مراحل مكاسب روسية كبيرة أولاً على مستوى الدور الذي تلعبه وثانياً على صعيد توصيفها في سوريا الذي تبدل من دولة داعمة للنظام ومشاركة في القصف ومحتلة للأراضي السورية إلى دولة راعية للاتفاق السياسي وضامنة للحل.

في هذا الإطار، تمثل الجهود التركية لإنجاح المحادثات دعماً للدور الروسي وتعميقاً للتعاون مع موسكو، وهو مسار يفيد الطرفان بشكل تبادلي. فلم تسمح موسكو بمشاركة الفصائل الكردية في المحادثات بناء على رغبة أنقرة التي تصنفها كمنظمات إرهابية لعلاقتها بالعمال الكردستاني، بينما ساهمت الأخيرة في تشكيل وفد المعارضة بشكل قريب من التصور الروسي عبر تغليب الجانب العسكري منه على السياسي فغابت الهيئة العليا للمفاوضات عن الوفد إلا من خلال بعض الشخصيات الاستشارية.

ثالثاً، إضعاف المشروع الكردي. فقد كانت الأولوية التركية في سوريا – وما زالت – منع تأسيس دويلة كردية على حدودها الجنوبية، يمكن أن تمثل منطلقاً لعمليات حزب العمال الكرستاني مستقبلاً كما هي جبال قنديل في شمال العراق اليوم. ولذلك، فإن تثبيت “وحدة الأراضي السورية” ورفض كافة أشكال التقسيم بما فيها الفيدرالية تحقق لأنقرة أحد أهم أهدافها في سوريا، فضلاً عن استثناء حزب الاتحاد الديمقراطي أو قوات سوريا الديمقراطية من وفد المعارضة كما سبق.

رابعاً، تقليل خسائر المعارضة. تدرك أنقرة أن ورقة قوتها الكبرى في سوريا هي المعارضة السورية وليس التقارب مع موسكو أو قواتها في درع الفرات على أهميتهما، كما تضع في حسبانها الأوضاع الميدانية المتراجعة والظروف الدولية المتغيرة. ولذلك يهدف سعيها في جزء منه إلى منح الفصائل العسكرية والسياسية فرصة لترتيب أوضاعها وتقييم المرحلة وتوحيد الرؤى، إضافة إلى فرض المسار السياسي باعتبار أن العسكري يسير في غير مصلحتها في الوقت الراهن، فضلاً عن أن مشاركتها تثبتّها طرفاً مقبولاً ومعترفاً به إقليمياً ودولياً للمساهمة في رسم مستقبل سوريا.    

خامساً، الحفاظ على دورها. بعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 وإخراج تركيا من المعادلة السورية بشكل كبير، عادت أنقرة إلى لعب دور مهم وفاعل في القضية السورية من خلال عدة خطوات مزجت فيها القوة الناعمة مع الصلبة وقامت باستدارة واضحة في سياستها الخارجية على مستوى المنظور والسقف والتوجه والمواقف.

لا تريد أنقرة أن تخسر دورها في سوريا وتعمل على إدامته على المدى البعيد، أولاً عبر إرسال إشارات إيجابية بخصوص مشاركة واشنطن في المحادثات سعياً للبقاء بشكل مؤثر في مشهد جنيف القادم. وثانياً باستمرار اللعب على وتر التباينات الجزئية في الرأي والموقف بين موسكو وطهران سعياً لزيادة الشرخ وتأمين انزياح روسي أكبر نحوها قدر الإمكان بما يمكنها من تثبيت نفسها ودورها حتى لو تبدلت المعادلات السياسية والميدانية.

 

عقبات وتحديات

ثمة إجماع بين الدول الراعية على ضرورة الحل السياسي، وهناك حرص ملحوظ من الطرفين المحليَيْن على تثبيت وقف إطلاق النار رغم الخروقات المتكررة وإدراك لاستحالة الحل العسكري. وبالتالي فهناك رغبة من الداعمين تحولت مع الوقت – ولأسباب كثيرة – إلى قناعة لدى النظام وجزء مهم من المعارضة بأهمية وقف إطلاق النار ثم التفاوض السياسي، ورغم ذلك فثمة عقبات وتحديات حقيقية أمام هذا المسار وفي المقدمة منه محطة أستانا قد تعصف بها وتودي بها إلى الفشل.

فمن جهة، لا يبدو السقف المطروح في أستانا مقنعاً للمعارضة أو قاعدتها، ولذا فلا يعول عليه أن يشكل حلاً طويل المدى ومستقراً، بل يُؤطر كلقاءات “تثبيت وقف إطلاق النار” لا أكثر ويبدو غير مضمون النجاح. ذلك أنه بدون تحقيق الحد الأدنى من مطالب المعارضة ومن تمثلهم من الشعب وبلا جهود حقيقية لمعالجة جزء مهم من أسباب الثورة قبل سنوات فضلاً عن تغييب الأسماء الكبيرة في النظام والمرتبطة بمجازر وجرائم وخطايا كبرى، فليس من الواقعي انتظار أي اختراق مهم في المسار السياسي.

من جهة أخرى تمثل الانتهاكات المتكررة لوقف إطلاق النار تحدياً رئيساً أمام نجاح المحادثات ومخرجاتها، وإشارة على مدى جدية مختلف الأطراف في المسار السياسي، ما بين اعتباره حلاً مطلوباً أو مجرد فرصة لكسب الوقت والأرض.

وبالتوازي مع هذه الانتهاكات، تمثل كل من داعش والنصرة تحدياً ميدانياً لن يكتفي فقط بإشعال الميدان مرة أخرى، ولكن قد يتسبب بتناقضات داخلية بين فصائل المعارضة وهو هدف يبدو أن موسكو قد لعبت على وتره كثيراً باستثناء النصرة من الاتفاق وبدعوة الفصائل العسكرية دون السياسية.

لا تبدو إيران والميليشيات المرتبطة بها سعيدة جداً بمسار المحادثات واستثناء طهران من الدول الضامنة ولا راضية بمسار التقارب بين أنقرة وموسكو، وتريد أن تكون المحطات السياسية خطوات لالتقاط الأنفاس قبل التقدم الميداني مرة أخرى. ولذلك فمن المتوقع أن تلعب دوراً شبيهاً بما قامت به في اتفاق شرق حلب، أي الشغب على التنفيذ لفرض نفسها في الصورة وزيادة الضغط على المعارضة، وهو الدور الذي استثمرته روسيا ولم تمنعه تماماً.

أخيراً، لا تستطيع محادثات أستانا أن تشكل بديلاً لمسار جنيف لافتقارها للرعاية الدولية ودور الولايات المتحدة، ولذا فسقفها أن تكون خطوة ممهدة للجولة القادمة من التفاوض في الثامن من شباط/فبراير القادم، ولعل ذلك كان واضحاً في البيان المشترك الذي أصدرته روسيا وتركيا وإيران في افتتاح المحادثات.

وهذا المعنى الأخير تحديداً، يفرض تحديات على الدور التركي الذي استفاد من التفاهمات الروسية – التركية لكنه سيكون أقل تأثيراً ومساحة في أي مسار “دولي” بطبيعة الحال. ولعل ذلك ما يفسر لهجة أنقرة الودية منذ البدء تجاه المشاركة الأمريكية و”دور واشنطن الضروري” لحل الأزمة السورية، بحيث لا تضع كل بيضها في سلة أستانا بل تتحسس موضع قدمها في جنيف وما بعدها.

أخيراً، لا تشكل أستانا المحطة الأخيرة للقضية السورية ولا حلها المنشود، لكنها المحطة الأبرز – حتى الآن – التي أثبتت فيها مختلف الأطراف إذعانها للحل السياسي التفاوضي، بغض النظر عما تقوله في العلن. كما أظهر مسار أستانا مقاربة تركية جديدة في سوريا من الصعب أن تتغير في المراحل المقبلة، وهو ما يفرض على المعارضة أولاً ثم على أنقرة ثانياً ضرورة تقييم الأوضاع الحالية بممكناتها وتحدياتها وفرصها المستقبلية لكي يتاح لها تضفير الدور لا خسارته. فرغم تراجع الدور التركي أو تعديل مساره وسقفه، إلا أن المعارضة لا تملك رفاهية خسارته كما لا تملك له بديلاً لا الآن ولا في المستقبل القريب.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

عن التسابق الأمريكي - الروسي لقصف داعش

المقالة التالية

نقل السفارة الأمريكية للقدس: مخاطر ومسؤوليات

المنشورات ذات الصلة