عن التسابق الأمريكي – الروسي لقصف داعش
المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
بعد فترة طويلة من اتهامها بدعم تنظيم الدولة – داعش بسبب امتناعها عن الانخراط الفعلي المباشر في التحالف الدولي لمكافحتها، بدأت تركيا في آب/أغسطس 2016 عملية درع الفرات في الشمال السوري. وقد حددت لهذه العملية أهدافاً ثلاثة تتعلق بمكافحة داعش وحماية الحدود التركية والحفاظ على وحدة الأراضي السورية بمعنى منع فكرة الدويلة الكردية(1).
أنجزت هذه العملية مرحلتيها الأوليَيْن سريعاً، فأخرجت داعش من جرابلس ثم تعمقت القوات التركية ومن يرافقها من مجموعات الجيش السوري الحر نحو بلدة الراعي، وكانت المرحلة الثالثة تقضي بإخراج داعش من مدينة الباب ذات الأهمية الاستراتيجية.
وقد توقعنا منذ البدايات أن تكون المرحلة المرتبطة بالباب أطول وأصعب وأكثر كلفة من سابقاتها بسبب أهمية المدينة وموقعها الجغرافي والصعوبات الميدانية واستعدادات داعش والكثافة المدنية، لكنها تسير في كل الأحوال نحو الحسم(2).
بيد أن العملية التي أتت بعد التقارب التركي – الروسي، لم تحصل على دعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية والتحالف الدولي رغم مواجهتها لداعش (المهمة الرئيسة للتحالف)، ربما لأنها تواجه أيضاً الفصائل الكردية المسلحة حليف واشنطن الميداني.
على مدى الأشهر الماضية بقيت القوات التركية وحيدة ومجردة من الدعم الأمريكي ولا تحظى إلا بضوء أخضر روسي تحول أحياناً إلى أصفر ثم أحمر في بعض المحطات(3)، بيد أن الأيام القليلة الماضية شهدت مشاركة روسية وأمريكية في قصف مواقع داعش في مدينة الباب. فما الذي استجد؟
بالنسبة لروسيا، يبدو الأمر متسقاً مع التطورات الميدانية والسياسية. فقد استطاع الجانبان الروسي والتركي نقل التفاهمات الثنائية بينهما إلى مستويات متقدمة مع اتفاق شرق حلب لإجلاء المدنيين والمسلحين ثم إعلان موسكو ثم التحضير لمحادثات الأستانا باعتبارهما دولتين ضامنتين لها. أكثر من ذلك، فقد أعلنت المؤسسة العسكرية التركية قبل أيام عن “اتفاق” أبرم بين الطرفين للتعاون الميداني في عملية درع الفرات ومواجهة داعش في الباب تحديداً، وقد دأبت المقاتلات الروسية منذ ذلك اليوم على المشاركة في القصف في ظل احتفاء تركي واضح بذلك.
إذن، فموسكو حريصة جداً على استمرار التفاهمات مع أنقرة وتريد أن تطور مستوى التعاون بين الجانبين كجزء من سياسة احتواء أوسع لتركيا بعيداً عن الناتو وواشنطن إضافة لدورها المهم جداً في أي حل للأزمة السورية باعتبار موقعها من المعارضة السورية السياسية والعسكرية.
من جهة أخرى، تريد موسكو أن تذهب إلى محادثات الأستانا في ظل أعمق توافق ممكن مع أنقرة وهو المتحقق حتى الآن بعدم السماح الروسي لمشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي (القومي الكردي) فيها ومساهمة تركيا في تشكيل وفد المعارضة من الفصائل العسكرية مع مستشارين من الهيئة العليا للمفاوضات. كما ترغب روسيا بطبيعة الحال بتسريع عملية درع الفرات والانتهاء من معركة الباب لفرض ودعم وقف إطلاق نار أكثر قدرة على الصمود على المدى البعيد.
وإذا كانت المشاركة الروسية في قصف محيط الباب مفهومة لهذه السياقات المنطقية، فإن مشاركة الولايات المتحدة تحت سقف التحالف الدولي بدت مستهجنة إلى حد بعيد بعد أشهر من التمنع، بل والتصريح بأن درع الفرات خطة تركية لا تندرج تحت عمل التحالف الدولي لمكافحة داعش.
قد يبدو للوهلة الأولى أن اقتراب دخول ترامب للبيت الأبيض هو السبب خلف هذا التحول الأمريكي، لكنني أعتقد أنه تفسير متسرع نوعاً ما، فما زال من المبكر الحديث عن تأثير ترامب في السياسة الخارجية الأمريكية والأزمة السورية، ليس قبل تنصيبه رسمياً وإعلانه عن فريق عمله وعناوين سياسته الخارجية ومن ضمنها رؤيته للحل في سوريا ودور بلاده فيها.
بيتر كوك، الناطق باسم البنتاجون، قال في مؤتمر صحافي (19 يناير 2017): إن تركيا – حليفة الولايات المتحدة – والقوات المشاركة معها ينفذون عملية ضد داعش و”ينسقون عن كثب مع التحالف الدولي”. ويبدو أن لهذا التغير الواضح في الخطاب الأمريكي عدداً من الأسباب، أهمها:
أولاً، لا يمكن فصل هذا التطور عن سياقه والأحداث المتزامنة معه وفي مقدمتها محادثات أستانا التي يتباحث الطرفان الروسي والتركي حول دعوة الولايات المتحدة إليها، وقد أعلن وزير الخارجية التركي عن رغبة بلاده في دعوة الأخيرة للمحادثات، وبالتالي يمكن فهم الخطوة على أنها مبادرة من واشنطن تجاه أنقرة تسعى لرأب الصدع في العلاقات سيما مع قرب دخول ترامب للبيت البيضاوي.
ثانياً، قد تكون التفاهمات الروسية – التركية التي تعمقت كثيراً في الآونة الأخيرة قرعت ناقوس الخطر في العاصمة الأمريكية تحسباً لسحب البساط تماماً من تحت أقدامها في الأزمة السورية. صحيح أن التدخل الروسي وخطواته اللاحقة لم تحدث رغماً عن واشنطن بل برضاها في الإطار العام، لكن المستويات التي وصل إليها التعاون بين موسكو وأنقرة وصلت إلى حد الدعوة لمؤتمر حول الحل في سوريا و”التفكير بمدى جدوى” دعوة واشنطن إليه. هنا، تبدو الأخيرة في محاولة لاستعادة دورها أو بالحد الأدنى لتذكير مختلف الأطراف بأنها لاعبة لا يمكن الاستغناء عنها في أزمة كالسورية.
ثالثاً، قد يكون تكثيف العمليات التركية والروسية في “الباب” مؤذناً بقرب نهاية العمليات هناك، وبالتالي دفع ذلك الولايات المتحدة للتدخل لتكون شريكاً في الإنجاز وما بعده. ولعل ذلك ما دفع الأوساط التركية لإنكار المشاركة الأمريكية الفاعلة في القصف قبل أيام والقول إنها قصفت أراض فارغة وليس مواقع لداعش.
رابعاً، وربما هو الأهم، من الواضح أن التدخل الأمريكي – الدولي الأخير يأتي في سياق الخطط الأمريكية لما بعد الباب: أي معركة الرقة من جهة والخطط التركية المتعلقة بمنبج من جهة أخرى، وهما محطتان لهما علاقة مباشرة بالحليفين تركيا والفصائل الكردية. هنا، يمكن فهم الخطوة الأميركية على أنها محاولة لتوجيه العمليات باتجاه الرقة وبعيداً عن منبج قدر الإمكان أو محاولة ضبط المسار التركي فيها على الأقل، وهو توجه يمكن قراءته بين سطور تصريح بيتر كوك الأخير حين تحدث عن “تنسيق واسع النطاق” ضد داعش، تطمح بلاده لأن “تراه أيضاً في الرقة”.
بكل الأحوال، يمكن قراءة التحركات الأخيرة من مختلف اللاعبين على أنها تأكيدٌ على أدوارها ورغبة في المشاركة بالإنجاز ولعبٌ على وتر التحالفات والاصطفافات، سيما قبيل محادثات أستانا وقرب انتهاء معركة الباب بعد استعصاء واستدامة وبطء، مما يفتح الباب على أسئلة ما بعدها.
وفيما بعد الباب سيكون السؤال أكثر صعوبة وإلحاحاً، إذ يضرب على وتر التوتر وتضارب المصالح بين تركيا والفصائل الكردية المسلحة هناك، وهو ما يضع كلاً من موسكو وواشنطن أمام ضرورة الاختيار أو محاولة التوفيق بينهما، وهي مهمة شاقة ستكون أسهل بكثير على موسكو منها على واشنطن. ولعل سؤال “الأكراد” بعد الباب سيكون مقدمة سؤال المستقبل في سوريا(4) ميدانياً وسياسياً سيما من الزاوية التركية (1).
————————————-
الهوامش:
(1) سعيد الحاج، عملية درع الفرات: الأسباب والتحديات المستقبلية، الجزيرة نت، 25 آب/أغسطس 2016:
(2) سعيد الحاج، الخيارت التركية بين معركة الموصل ودرع الفرات، الجزيرة نت، 10 تشرين الأول/أكتوبر 2016:
(3) سعيد الحاج، تركيا وروسيا بين التنسيق والتنافس، عربي 21، 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2016
(4) سعيد الحاج، تركيا والأزمة السورية: ملامح مرحلة جديدة، الجزيرة نت، 26 كانون الأول/ديسمبر 2016.