محددات السياسة الخارجية التركية إزاء سوريا

مركز إدراك للدراسات والاستشارات

ملخص

من الصعوبة بمكان تقييم واقع الثورة السورية واستشراف مستقبلها دون الحديث عن حاضنتها الإقليمية والدول المؤثرة فيها، وخاصة تركيا، باعتبارها دولة إقليمية كبيرة وجارة لسوريا، ولتأييدها أحد أطراف المعادلة السورية، فضلاً عن كونها إحدى الدول المنضوية تحت التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة. وعليه، فإن فهم الموقف التركي ومحدداته وحدوده بات أمراً مهماً وحيوياً.

تسعى هذه الورقة لوضع أسس ومحددات السياسة الخارجية التركية بخصوص سوريا، ضمن رؤية تأصيلية نظرية – عملية شاملة، بحيث تشكل إطاراً واسعاً من إدراك ممكنات ومعيقات الدور التركي في سوريا يمكن الاستفادة منه في مختلف المراحل، أبعد من مجرد التركيز على حدث هنا أو تطور هناك.

يمكن اعتبار هذه الورقة وعاءً واسعاً يحتوي آلية صنع القرار التركي بما يتعلق بالأزمة السورية، انطلاقاً من أهمية سوريا في الاستراتيجية التركية، وبناءً على أسس السياسة الخارجية التركية في عهد العدالة والتنمية بشكل عام، واعتماداً على تحديد رؤية وممكنات ومراجعات صانع القرار في أنقرة.

 

استهلال

حظيت الثورة السورية منذ بدايتها عام 2011 باهتمام تركي خاص فاق سابقتها من ثورات العالم العربي، لما لها من أثر وانعكاسات مهمة على تركيا نفسها خصوصاً وعلى المنطقة عموماً، فكانت اتصالات رئيس الوزراء التركي حينها اردوغان على الرئيس السوري الأسد وزيارات وزير الخارجية التركي آنذاك أحمد داودأوغلو المتكررة للعاصمة دمشق تعبيراً عن هذا الاهتمام في محاولة لإقناع الأسد بضرورة التجاوب مع مطالب الحركة الاحتجاجية الشعبية واحتواء النتائج الكارثية المترتبة على السيناريوهات البديلة.

بيد أن انتهاج النظام الحل الأمني وإغلاقه الباب من الناحية العملية على الحلول السياسية، ثم تحول الثورة السورية من حالة الاحتجاج الشعبي في الميادين إلى العسكرة، كانت تطورات حملت معها متغيراً موازياً على مستوى الموقف التركي.

ولئن تعارضَ الموقف التركي وتناقضَ مع مواقف دول مثل روسيا وإيران والعراق (والمجموعات الدائرة في فلكهم)، فإنه لم يتطابق مع مواقف حلفائه المفترضين من “أصدقاء الشعب السوري” وخاصة الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. فقد ركزت الرؤية الغربية على تنظيم الدولة ومفهوم “مكافحة الإرهاب”، بينما رأت أنقرة أن التنظيم أحد إفرازات السياسات القمعية للأسد والسياسات المذهبية لرئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي، وأن الأولوية يجب أن تكون لاستئصال السبب لا التعامل مع النتائج.

واليوم، في الانعطافة التاريخية التي تمر بها الأزمة السورية، تتجه الأنظار نحو التحالف التركي – السعودي المفترض لإنقاذ المعارضة السورية التي تقاتل في ريفها على جبهات ثلاث، ضد النظام المدعوم روسياً وقوات حماية الشعب الكردية وتنظيم الدولة. وعليه، فربما لا نبالغ إن قلنا إن العلاقة بين مستقبل سوريا وبين الموقف التركي علاقة عضوية مباشرة، وبذلك تزداد أهمية سبر أغوار هذا الموقف والتعمق في فهم السياقات التي تصوغه وتشكل تفاصيله.

 

سوريا وتركيا من منظور الجيوبوليتيك

يقول المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل إن “الخرائط هي التي تروي القصة الحقيقية”[1]. وقد تختصر هذه الجملة المكثفة الفلسفة الرئيسة لعلم الجيوبوليتيك، بمعنى تأثير الجغرافيا على السياسة، سيما السياسة الخارجية.

ويبدو هذا التأثير العابر للحدود في منحى متزايد في ظل العولمة وثورة الاتصالات وانتشار المنظمات الدولية والشركات العابرة للقارات، والتي أدت – إضافة لعوامل أخرى عديدة – إلى الانتقاص من السيادة الوطنية للدول وزيادة جدلية التأثر – التأثير الثنائية والجماعية بين الدول، خاصة الدول المتجاورة.

من هذه الزاوية، ثمة أهمية خاصة لسوريا بالنسبة لتركيا من منظور الجيوبوليتيك، إضافة إلى التاريخ وعلم الاجتماع السياسي، تتبدى في عدد من العوامل والسياقات، أهمها:

1- تعتبر الحدود التركية – السورية الحدود البرية الأطول لتركيا، بواقع حوالي 900 كلم[2]، بكل ما يعنيه ذلك من مصالح ومهددات مشتركة ومتبادلة، سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية.

2- تعتبر سوريا بوابة العالم العربي بالنسبة لتركيا، سيما فيما يتعلق بالتجارة البرية، وهذا ما يفسر التوجه التركي الحثيث لتصويب العلاقة مع دمشق بخطوات متسارعة في عهد العدالة والتنمية.

3- تقع سوريا في قلب “المناطق البرية القريبة”، أي البلقان والقوقاز والشرق الأوسط، التي اعتبرها أحمد داودأوغلو في كتابه الأشهر “العمق الاستراتيجي” أهم المناطق التي يجب على تركيا التواصل والتقارب معها لإفادة مكانتها في الإقليم والعالم.[3]

4- ثمة تقارب ملحوظ في التنوع العرقي والإثني والمذهبي على طرفي الحدود.

5- هناك علاقات نسب ومصاهرة وقرابة دم بين البلدات الواقعة على طرفي الحدود بين البلدين.

6- تعتبر تركيا الراعية التاريخية والسياسية والثقافية لتركمان سوريا، المتمركزين في الشمال السوري قرب حدودها.

7- كان لحلب أهمية استثنائية في تاريخ الدولة العثمانية، وخسرتها تركيا في معاهدة لوزان بعد الحرب العالمية الأولى، وتعتبرها تركيا اليوم – إلى جانب الموصل في العراق – خط الدفاع الأول عن حدودها.

8- كان لواء الاسكندرون وما زال عامل توتر بين البلدين، حيث ضمته تركيا لأراضيها عام 1939.[4]

9- تتشارك الدولتان في تعقيدات الملف الكردي في المنطقة، إضافة لكل من العراق وإيران، وإن من زوايا مختلفة تتلاقى أحياناً وتتعارض في أحيان كثيرة.

10- تميزت العلاقات بين البلدين تاريخياً بالتوتر الدائم خاصة في فترة الحرب الباردة التي انضمت تركيا خلالها لحلف شمال الأطلسي (الناتو) بينما كانت سوريا في معظم الوقت حليفة للاتحاد السوفياتي السابق ثم روسيا. عام 1958 وفي عهد رئيس الوزراء عدنان مندريس حشدت تركيا جيشها على حدود “الجمهورية العربية المتحدة” للضغط على عبدالناصر[5]، بينما كانت حالة التصعيد عام 1998 أشهر تلك التوترات والتي وصل البلدان فيها إلى حافة الحرب المباشرة، ثم انتهت بتوقيع اتفاق أضنة الأمني[6]، ولاحقاً بطرد زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان من سوريا بعد ضغوطات تركية، ليتم اعتقاله و/أو تسليمه لتركيا عام 1999.

 

السياسة الخارجية للعدالة والتنمية

منذ تأسيسها على يد مصطفى كمال عام 1924، انتهجت تركيا سياسة خارجية اعتمدت على التغريب تحت اسم التحديث، فتوجهت تماماً نحو الغرب وأدارت ظهرها للشرق وخاصة العالم العربي. وعلى مدى عشرات السنوات، بقيت العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية محور مصالحها السياسية، وعضوية الناتو محور مصالحها العسكرية والاستراتيجية، وملف انضمامها للاتحاد الأوروبي محور مصالحها الاقتصادية[7].

 

في فترة الحرب الباردة، حين اشتبكت تركيا مع قضايا المنطقة كان ذلك في غير صالح الدول العربية، فكانت أولى دول العالم الإسلامي اعترافاً بدولة الاحتلال، التي أبرمت لاحقاً معها ومع إثيوبيا اتفاقية حزام المحيط عام 1958[8]، وتعاونت معها استخباراتياً وعسكرياً على مدى سنوات طويلة، فضلاً عن دورها في حربي الخليج الأولى والثانية بشكل عام.

ومع العدالة والتنمية، أعادت تركيا اكتشاف وتفسير وصياغة مجمل سياساتها الخارجية، عبر إعادة تعريفها لمكانها ومكانتها وممكناتها، وأعادت الاعتبار لأهمية منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لها.

في كتابه “العمق الاستراتيجي، موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية” وضع أحمد داود أوغلو الأسس النظرية التي يجب أن تسير عليها السياسة الخارجية التركية ما بعد انتهاء الحرب الباردة، والتي سارت عليها تركيا العدالة والتنمية فيما بعد، وأهمها:

  1. العمق الاستراتيجي: اعتبر داود أوغلو أن مكانة تركيا دولياً مرتبطة بشكل مباشر بمكانتها في محيطها وأدوارها الإقليمية التي تلعبها، خاصة في ثلاث مناطق جغرافية اعتبرها عمق تركيا الاستراتيجي، أي الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز التي أسماها مجتمعة “المناطق القارية القريبة”. وقد رأى في الكتاب أنه كلما لعبت بلاده أدواراً أكثر فاعلية في الشرق كلما ارتفعت مكانتها في الساحة الغربية – الدولية، وهو ما أسماه نظرية “القوس والسهم”[9].
  2. صفر مشاكل: إذ لا يمكن لأي دولة غارقة في خصومات وعداوات مع دول جوارها أن تبلور سياسة خارجية إيجابية وفاعلة، وبالتالي تحتاج إلى تصفير – أو تقليل – المشاكل مع جوارها لتستفيد كل الأطراف على قاعدة الربح للجميع (Win – Win Game)[10].
  3. القوة الناعمة: وحتى تكون تركيا “دولة مركز” في محيطها، رأى البروفيسور أن التبادل التجاري والاقتصادي والتواصل الفكري – الثقافي أعمق أثراً وأكثر فائدة من القوة الخشنة. وقد استفادت تركيا حتى بداية ثورات العالم العربي عام 2011 من هذه القوة الناعمة، ورُحب بها بشكل لافت في المنطقة[11].

وبناء على هذه النظريات الرئيسة الثلاث، فقد سارت السياسة الخارجية التركية بشكل عام وفي المنطقة ودول الجوار – وفي مقدمتها سوريا – بشكل خاص ضمن عدة محددات، أهمها:

أ- أولوية الحفاظ على الأمن القومي التركي ومصالح تركيا في الداخل والخارج.

ب- محاولة الجمع بين تحقيق المصالح والإيفاء بالمبادئ والشعارات التي ترفعها أنقرة قدر الإمكان، وقد استطاعت ذلك فترة طويلة جداً وخاصة مع المرحلة الأولى من ثورات العالم العربي.

ج- عدم مصادمة الرأي العام التركي، المتجه مؤخراً نحو الشعوب العربية والمتعاطف مع قضاياها.

د- الالتزام بسقف المنظومة الدولية والمرتكزات الثلاثة للسياسة الخارجية التركية، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

ه- تنويع العلاقات ومد جسور التواصل مع مختلف الأطراف، حتى المتناقضة، الأمر الذي يقلل الضغوط على أنقرة ويمنحها هامشاً مقبولاً من الاستقلالية الجزئية في سياستها الخارجية.

و- استشعار مسؤولية أخلاقية وسياسية فيما يتعلق بقضايا المنطقة، وفي مقدمتها القضيتان الفلسطينية والسورية، باعتبار أن تركيا وريثة الدولة العثمانية التي كانت المظلة السياسية لكامل جغرافيا المنطقة.

ز- البعد عن الصراعات، وتفضيل نموذج التواصل والتكامل، باعتبار أن تجربة تركيا في عهد العدالة والتنمية قائمة على التنمية الاقتصادية المعتمدة بشكل رئيس على الاستقرار السياسي.

ح- رفض النزاعات القائمة على أسس إثنية ومذهبية تحديداً، استشعاراً لخطورتها على المستويين النظري البحت بشكل عام والعملي الخاص بتركيا وتركيبتها العرقية والذهبية بشكل خاص، بل واعتبار هذا النوع من الصراعات “توريطاً” لتركيا والمنطقة تسعى إليه بعض القوى الخارجية للقضاء على مستقبل المنطقة[12].

ط- إخضاع السياسة للاقتصاد – تعزيز الارتباط بينهما – في حالات التواصل والعلاقات الجيدة، والفصل بينهما عبر إدامة وتطوير العلاقات الاقتصادية رغم التوترات السياسية – أي فك الارتباط بينهما – في حالات التوتر والقطيعة[13].

ي- محاولة لعب دور الوسيط في النزاعات والصراعات في المنطقة، وهو دور لعبته تركيا دائماً، لكن هذه المرة في صورة تركيا المقبولة من شعوب ونظم المنطقة والحريصة على مصالحهم، كما حصل في المفاوضات غير المباشرة بين سوريا ودولة الاحتلال الإسرائيلي عام 2008[14]، وفي الاتفاق الثلاثي بين إيران والبرازيل وتركيا حول الملف النووي عام 2010 وغيرها[15].

ك- التورع عن الدخول في أي نزاع بشكل منفرد أو دون غطاء دولي أو إقليمي أو منظمة دولية[16].

ل- يعرف صانع القرار التركي أنه ورث دولة منكفئة على نفسها وبعيدة عن الانخراط في قضايا المنطقة/ العالم العربي المعقدة، وافتقاده بالتالي لعناصر التأثير الخارجية والتي تحتاج لعشرات السنين من العمل وفق رؤية واضحة وخطوات مدروسة. وقد حاولت الحكومات التركية ردم هذه الفجوة عبر القوة الناعمة والتواصل الاقتصادي والثقافي، الذي كان يمكن له أن يفيد في حالة الهدوء، بينما أصبح عائقاً كبيراً في ظل الاستقطاب وتأجج الصراعات، خصوصاً في وجود دول إقليمية تنتهج القوة الخشنة والتكئات العسكرية.

م- حاجة تركية للشراكات الإقليمية وعدم قدرتها على حل الأزمات بمفردها. ويتبدى ذلك على المستوى النظري في تنظير أحمد داود أوغلو في كتابه “العمق الاستراتيجي” لأهمية “مثلث المنطقة” المكون من تركيا وإيران ومصر[17]، ويتجلى عملياً في اتجاهاتها الأخيرة لرفع وتيرة التعاون مع كل من قطر والسعودية تحديداً.

 

مراجعات السياسة الخارجية

حظيت تركيا خلال السنوات الأولى من حكم العدالة والتنمية – وحتى عام 2011 – بقبول جيد من طرفي المعادلة في العالم العربي، أي ما كانا يسميان محوري الاعتدال والممانعة. لكن ثورات العالم العربي عصفت بهذين المحورين وبكل توازنات المنطقة، وهزت معها وبذات القدر أسس السياسة الإقليمية لتركيا. فقد تحول عمقها الاستراتيجي إلى ساحة صراعات دامية، وفشلت نظرية “صفر مشاكل” في التجاوب مع التطورات المتسارعة التي حولت الإقليم إلى “صفر هدوء”، فيما عجزت قوتها الناعمة عن إحداث أي اختراقات/إنجازات مهمة في المنطقة بعد أن أضحت الأخيرة طرفاً في حالة الاستقطاب بسبب مواقفها المعلنة من الثورات، سيما الثورة السورية.

وبنتيجة كل هذه المتغيرات، صدرت عدة قراءات ودعوات في تركيا، ومن صفوف الحزب الحاكم والحكومة لإعادة تقييم ثم تقويم سياستها الخارجية[18]، وكان من العوامل الإضافية التي ساهمت في ذلك ما يلي:

  1. الضغوط الخارجية التي تعرضت لها أنقرة بسبب مواقفها التي نحت نحو صياغة سياسة خارجية مستقلة نسبياً وجزئياً عن المواقف الغربية، وخصوصاً في قضايا المنطقة مثل سوريا ومصر وفلسطين.
  2. تراجع الاهتمام بالسياسة الخارجية بسبب تزاحم وتلاحق ملفات السياسة الداخلية، وفي مقدمتها أحداث “جزي بارك” في حزيران/يونيو 2013[19]، ثم ادعاءات الفساد بحق الحكومة والحزب في كانون الأول/ديسمبر 2013[20]، ثم تعثر عملية المصالحة الداخلية مع الأكراد إثر استئناف حزب العمال الكردستاني لعملياته العسكرية في تموز/يوليو 2015، فضلاً عن عدة استحقاقات انتخابية شغلت الحزب الحاكم والحكومة باستحقاقاتها، مثل الانتخابات المحلية في آذار/مارس 2014، ثم الانتخابات الرئاسية في آب/أغسطس من العام نفسه، فالانتخابات البرلمانية في حزيران/تموز 2015، ثم أخيراً انتخابات الإعادة في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه.
  3. حالة العزلة التي عانت منها تركيا في المنطقة إثر مواقفها من القضايا المختلفة، سيما السورية والمصرية، وافتقارها لتحالفات قوية ومستدامة تستند عليها في سياساتها الإقليمية.
  4. انتخابات حزيران/يونيو 2015 البرلمانية والفترة الانتقالية بعدها التي أدت إلى حالة لا استقرار سياسي وتذبذب اقتصادي وتصعيد أمني – عسكري، وهو ما دفع صانع القرار التركي للانكفاء على الداخل وتقديم بعض التنازلات في السياسة الخارجية.

أدت هذه السياقات مجتمعة إلى تراجعات وتغيرات في السياسة الخارجية التركية، مثل السماح للولايات المتحدة والتحالف الدولي باستخدام قاعدة إنجيرليك العسكرية بعد شهور طويلة من التمنع[21]، والانخراط الفعلي في التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة بعد أشهر من التردد[22]، وخفوت حدة صوت أنقرة في مواجهة نظام السيسي ووتيرة انتقاداتها له، واللهجة اللينة نسبياً إزاء التدخل العسكري الروسي على حدودها الجنوبية في أيلول/سبتمبر 2015، والقبول الضمني ببقاء الأسد في الحكم خلال الفترة الانتقالية للحل السياسي المتفق عليه بين وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا، كيري ولافروف، في اتفاق فيينا[23].

لاحقاً، أدى إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، وما تلاه ذلك تطورات متلاحقة وإجراءات روسية على المستويين العسكري والاستراتيجي في سوريا والمنطقة، إلى خسارة تركية مزدوجة: الأولى عسكرياً واسترايتيجياً أمام روسيا حيث فقدت القدرة على الطيران فوق سوريا والمبادرة في شمالها واضطرارها للانكفاء لتجنب ردة فعل روسية عالية السقف، والثانية سياسية أمام واشنطن وحلف الناتو من خلال عودتها للتماهي مع مواقفهما وخسارتها لهامش الاستقلالية النسبي في سياستها الخارجية بعيداً عنهما[24].

 

تركيا والأزمة السورية

منذ الأيام الأولى للثورة السورية كان لتركيا موقفها ومحاولة لعب دور، وما كانت تستطيع أن تتجاهل حدثاً بهذا الحجم في دولة جارة لها ومهمة لها كسوريا. وقد انتقل الموقف التركي من الأزمة السورية مع الوقت من مستوى لآخر – تقدماً وتراجعاً – اعتماداً على عدة عوامل، أهمها تطورات المشهد السوري الداخلي سياسياً وميدانياً، والموقف الدولي من الأزمة السورية وآفاق الحل، وقوة/ضعف الموقف التركي بسبب المتغيرات الداخلية والخارجية.

ويمكن تقسيم المواقف التركية حسب تسلسلها الزمني إلى أربع مراحل:

الأول، الضغط لإحداث إصلاحات سياسية في سوريا. وهو موقف نابع من عدة اعتبارات، أهمها دعم تركيا السابق للتحركات الشعبية في عدة دول سابقة على سوريا، ودعمها لعملية التغيير في العالم العربي، والعلاقات الجيدة التي ربطتها بسوريا ونظام الأسد ما قبل عام 2011 شملت عشرات الاتفاقيات الاقتصادية وتأسيس مجلس أعلى للتعاون الاستراتيجي عام 2009[25]، فضلاً عن التوافق على إنشاء منطقة تجارة حرة تجمع تركيا وسوريا والأردن ولبنان عام 2010 لم يكتب لها النجاح[26]، وخشية أنقرة من انزلاق الأحداث وتدحرجها إلى فوضى عارمة تضر بسوريا وتركيا ومشروعها التواصلي والتكاملي مع العالم العربي، فضلاً عن العلاقات الشخصية وحتى العائلية الجيدة مع الأسد نفسه.

امتدت هذه المرحلة من بداية التظاهرات في آذار/مارس 2011 وحتى سحب السفير التركي من دمشق في آذار/مارس 2012 تقريباً[27]. وقد شملت هذه الفترة عدة اتصالات هاتفية من اردوغان للأسد وعدة زيارات لوزير الخارجية آنذاك داود أوغلو ووفد يرأسه رئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان بناء على قرار من مجلس الأمن القومي التركي[28].

ورغم أن تركيا استضافت في هذه الفترة مؤتمرين للمعارضة السورية، الأول في نيسان/أبريل والثاني في حزيران/يونيو 2011[29]، إلا أنها التزمت بسقف دعم الإصلاحات الدستورية والتغيير السلمي. وقد تدرج الموقف التركي بناءً على تطورات المشهد السوري الداخلي وانتقل سريعاً من إبداء الثقة بالأسد ودعمه لتنفيذه ما وعد به من إصلاحات[30]، إلى “حثه” على الإسراع في تنفيذها[31]، إلى انتقاد الممارسات الأمنية، إلى الدعوة لعدم تفويت الفرصة على التغيير السلمي، إلى التهديد بتغيير موقف أنقرة التي تملك بدائل بعد مماطلة النظام وخداعه[32].

الثاني، دعم المعارضة لإسقاط الأسد. وذلك بعد أن ترسخت لدى أنقرة قناعة بأن الأسد غير جاد أو غير قادر على إحداث إصلاحات حقيقية تحتوي الأزمة أو بفوات الوقت على مثل هذه الخطوة، وبعد أن فقدت تركيا إمكانات الضغط على النظام إثر القطيعة الدبلوماسية الكاملة بينهما بعد سحب السفيرين، فضلاً عن تقدم فصائل المعارضة ميدانياً في مواجهة النظام. وقد امتدت هذه المرحلة على مدى ثلاث سنوات تقريباً أي حتى قبيل اتفاق فيينا بين كيري ولافروف.

اعتبرت تركيا أن نظام الأسد فاقد للشرعية باعتباره نظاماً قاتلاً لشعبه، ونادت بضرورة سقوطه/إسقاطه حقناً للدماء وإنقاذا لمستقبل سوريا، وحق الشعب السوري في اختيار قيادته وصياغة مستقبل بلاده. وكانت أنقرة في هذا الموقف شبه وحيدة على الساحة الدولية، في تناقض تام مع المحور الروسي – الإيراني الداعم للأسد، لكن أيضاً في تمايز عن الموقف الأمريكي – الأطلسي – الدولي سريع التبدل والذي دعا للتركيز على مكافحة “الإرهاب” ممثلاُ في تنظيم الدولة.

قدمت أنقرة خلال هذه الفترة الطويلة الدعم للمعارضة السورية على عدة مستويات وأبعاد، منها الإعلامي والسياسي والإغاثي واللوجستي، وحتى العسكري وإن لم يتم الاعتراف بذلك علناً. فقد استضافت تركيا معظم القيادات السياسية للمعارضة السورية، وأغلب مؤتمرات المعارضة، ورافقت كل مراحل تشكل هذه المعارضة من المجلس الوطني إلى ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، وشاركت في اجتماعات مجموعة أصدقاء سوريا، وساهمت في تشكيل اعتراف دولي بالمعارضة السورية السياسية التي قدمت لها الدعم وتحدثت باسمها في مختلف المنابر الدولية، واستضافت ما يربو على مليوني لاجئ سوري ضمن سياسة الباب المفتوح، ويعتقد على نطاق واسع أنها أمدت بعض الفصائل العسكرية بالسلاح خصوصاً مجموعات الجيش الحر في شمال سوريا والفصائل التركمانية رغم عدم التصريح بذلك[33]، وتبلورت مع الوقت حالة تنسيق واضحة بين تركيا وقطر.

الثالث، القبول بالحل السياسي. أي التخلي عن شعار إسقاط الأسد والقبول بخطة الفترة الانتقالية وجدولها الزمني وفق الاتفاق الأمريكي – الروسي في فيينا بما يعني الموافقة الضمنية على بقاء الأسد على رأس السلطة حتى الانتخابات المزمع عقدها في نهايتها، رغم عديد التصريحات برفض بقائه في السلطة بعدها.

ومن العوامل التي ساهمت في انتقال تركيا إلى هذا المربع حالة الركود والمراوحة في الوضع الميداني بين النظام وحلفائه من جهة وفصائل المعارضة من جهة ثانية، وتراجع إمكانات الدور التركي بشكل واضح في سوريا بعد التدخل العسكري الروسي المباشر، والاتفاق الأمريكي – الروسي على سقف وخارطة طريق الحل وجدولها الزمني وشكل سوريا المستقبلية ضمن بنود شملت تهديداً مبطناً بالإرهاب أو دعم الإرهاب لمن يخرج عن هذا الاتفاق[34].

كما تخلل هذه المرحلة انتخابات السابع من حزيران/يونيو وما ترتب عليها من متغيرات داخلية وخارجية أثرت على صانع القرار التركي، ودفعته لإعادة تقييم سياسته الخارجية كما سبق ذكره، وشهدت هذه المرحلة فتح قاعدة إنجيرليك العسكرية لطائرات التحالف الدولي وانخراط أنقرة بشكل فعلي – وإن بمستوى ما – في التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة – داعش.

الرابع، الانتقال من المبادرة للدفاع. وهي المرحلة الأخيرة، التي يمكن تأريخها بحادثة إسقاط أنقرة للمقاتلة الروسية والممتدة حتى الآن. وقد فقدت خلالها تركيا أي أمل في إحداث اختراق كبير في الحالة السورية فيما يتعلق بإسقاط النظام أو ترجيح كفة المعارضة، وأصبح شغلها الشاغل حماية حدودها وأمنها القومي من تطورات الأزمة السورية على مستويين:

الأول، السياق العام المتعلق بالإجراءات العقابية الروسية ضد أنقرة، على كافة المستويات الاقتصادية والتجارية والسياسية والعسكرية، وفي مقدمتها فرض موسكو حالة حظر طيران فعلي فوق سوريا منعت الطائرات التركية حتى الآن من التحليق فوق سوريا وأحياناً من الاقتراب من الحدود، وجعلت فكرة المنطقة الآمنة التي تنادي بها تركيا منذ سنوات في حكم المستحيلة، فضلاً عن أن تقدم دعماً نوعياً لفصائل المعارضة السورية التي تواجه حملات تقدم النظام بغطاء جوي روسي إضافة للمواجهات مع قوات حماية الشعب وتنظيم الدولة.

الثاني، السياق الخاص المتعلق بتقدم قوات حماية الشعب (الكردية)، وهي الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي تعتبره أنقرة الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، في شمال سوريا باسمها أو تحت لافتة قوات سوريا الديمقراطية التي تشكل هي معظمها، في مسعى تدعمه روسيا عسكرياً والولايات المتحدة سياسياً لإقامة شريط كردي محاذ للحدود التركية – السورية[35].

ومن ملامح تراجع التأثير التركي في هذه المرحلة وانكفائها على محاولة الدفاع عن مصالحها، تكسُّرُ الخطوط الحمراء التي أعلنتها فيما يتعلق بتقدم القوات الكردية، أولاً غرب الفرات (وقد حصل ذلك إثر السيطرة على سد تشرين)[36] ثم شرق عفرين (وقد سيطروا على بلدة تل رفعت وحاولوا التقدم نحو اعزاز)[37].

شهدت هذه المرحلة ارتفاع وتيرة التنسيق والتعاون بين أنقرة والرياض – مع ملاحظة الانسحاب شبه الكامل للدوحة – وإن لم يصل إلى مرحلة التحالف الاستراتيجي الكامل، ومن ملامحه تولي الرياض ملف هيئة المفاوضات الممثلة للمعارضة والمشاركة في محادثات جنيف 3، فضلاً عن إرسال السعودية لعدد من مقاتلاتها إلى قاعدة إنجيرليك التركية[38]، وسط تصاعد وتيرة التسريبات التي تتحدث عن قرب عملية عسكرية تركية – سعودية في سوريا[39].

 

محفزات التدخل ومعيقاته

بعد التطورات الأخيرة، لم تعد الأزمة السورية بالنسبة لتركيا مشكلة دولة جارة بقدر ما أضحت شأناً داخلياً تركياً، لثلاثة سياقات مهمة ومتزامنة:

الأول، تطورات جبهة حلب التي تهدف إلى خنق المعارضة هناك وفصلها عن التواصل الجغرافي والسياسي واللوجستي مع تركيا، وما لذلك من انعكاسات على المعارضة نفسها وعلى الأزمة السورية ككل وعلى الدول الإقليمية الداعمة وفي مقدمتها تركيا.

الثاني، المشروع السياسي الكردي في شمال سوريا، والذي يهدد على المدى البعيد جداً تركيا بسيناريوهات التقسيم أو الحكم الذاتي لأكرادها.

الثالث، اتهام أنقرة لقوات الحماية بالوقوف – مشاركة مع حزب العمال الكردستاني – خلف تفجير أنقرة الذي أودى بحياة 28 شخصاً، وتحذيرها من عمليات مشابهة وشيكة.

هذه التطورات التي تسير على قدم وساق تطرح التدخل العسكري التركي المفترض في سوريا كخيار متاح لأنقرة، وربما مفروض عليها.

ثمة عدة عوامل تشجع أنقرة على اتخاذ قرار بالتدخل – أياً كان شكله ومداه – في سوريا، منها:

1- ارتباط الأزمة السورية بشكل مباشر بأمنها القومي.

2- التقدم المضطرد للمشروع الكردي السياسي على حدودها الجنوبية.

3- تداخل المشهد السوري مع الوضع التركي الداخلي بعد تفجير أنقرة.

4- تعقيدات الوضع الميداني السوري بما يوحي بهزيمة محتملة أو تراجع كبير للمعارضة، وانعكاسات ذلك على تركيا، مما قد يدفعها للتدخل بهدف محاولة تعديل الكفة وموازنة المشهد.

5- توقع تركيا لموجات مستقبلية كبيرة من اللجوء نحو حدودها في حال فتحت جبهة حلب على مصراعيها، وهو ما تعتبره أنقرة سلاحاً تتقصد روسيا – والنظام – استعماله في مواجهتها.

6- استمرار سريان تفويض البرلمان التركي للحكومة والجيش بعمليات عسكرية خارج الحدود.

7- توفر تأييد داخلي لتدخل مفترض للحكومة في سوريا خصوصاً فيما يتعلق بمواجهة الفصائل الكردية المسلحة وحماية التركمان، ممثلٍ بحزب الحركة القومية المعارض (إضافة للحزب الحاكم) وجزء مهم من الرأي العام التركي، فضلاً عن غياب أي خلافات أو تناقضات في مؤسسات السلطة التنفيذية بوجود حكومة متجانسة من حزب واحد ومتفقة في الرأي مع الرئيس.

8- تفوق تركيا عسكرياً على كل من النظام وتنظيم الدولة وقوات حماية الشعب، خصوصاً إذا ما كان خيارها تدخلاً محدوداً على الحدود يمكن أن يحيد العامل الروسي.

9- بعض العوامل الإقليمية – الدولية التي قد تدعم قرار تركيا، مثل امتلاكها ورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي ممثلة باللاجئين السوريين، والنظام الداخلي لحلف الناتو الذي يفرض على الدول الأعضاء مساندة أي دولة عضو تتعرض لاعتداء، فضلاً عن التوافق التركي – السعودي على الخطوط العامة لمقاربتهما الأزمة السورية.

10- أن نتائج الانتظار والترقب قد تكون كارثية بالنسبة لتركيا، مما قد يدفعها للمبادرة قبل أن يفقد أي تدخل مستقبلي معناه والفائدة المرجوة منه.

 

كما إن هناك عدة معيقات وعقبات أمام قرار أنقرة، منها:

1- تفوق روسيا عسكرياً عليها، بالمقارنة المباشرة بين الجيشين وبسيطرتها التامة على الأجواء السورية، مما يدفع أنقرة لتجنب المواجهة العسكرية المباشرة – والمنفردة – معها.

2- الموقف الأمريكي الذي لم يتغير حتى الآن فيما يتعلق بخطوطه الحمراء إزاء سقف الدعم المقدم للمعارضة السورية، وخصوصاً مضادات الطيران، فضلاً عن التدخل المباشر في سوريا.

3- خذلان حلف الناتو لتركيا، وصدور عدة تصريحات من قياداته تحذرها من أي خطوة قد تجعل منها “معتدية” على روسيا في سوريا، بما يحرمها من نصرة الحلف[40].

4- تشظي فصائل المعارضة المسلحة في سوريا، بما يصعّب من مهمة تركيا لغياب الحليف المحلي الذي يمكنها أن تعتمد عليه.

5- وجود معارضة معتبرة في تركيا لأي تورط للجيش في سوريا، يتزعمها حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزب المعارضة المعروف بتوجهاته الداعمة للأسد، وحزب الشعوب الديمقراطي القومي الكردي.

6- الصعوبات اللوجستية والعسكرية المتعلقة بالتدخل المفترض، خصوصاً في ظل تقاعس الناتو ورفض الولايات المتحدة.

7- حالة التصعيد الداخلي التي يقودها حزب العمال الكردستاني في أحياء مدن الجنوب ذات الأغلبية الكردية، وهو ما سيعقد أي قرار تركي مفترض بفتح جبهة ثانية أحد أهم مكوناتها من الأكراد، بما يحمله ذلك من حساسية للمشهد الداخلي الكردي المتعلق بالمشكلة الكردية تحديداً، فضلاً عن كلفته العسكرية.

8- الموقف الرسمي العربي الرافض لأي تدخل مفترض لتركيا في سوريا، وهو اعتبار مهم يضعه صانع القرار التركي نصب عينيه، سيما والموقف من معسكر بعشيقة العراقي ما زال حديثاً[41].

9- تسريبات مفترضة حول تحفظ المؤسسة العسكرية التركية لأي تدخل مباشر في سوريا والاكتفاء بحماية الحدود وإفشال المشروع الكردي.

 

خاتمة – استخلاصات

بناء على كل ما تقدم، فإن الموقف التركي إزاء أي تطور متعلق بالمشهد السوري محدد بخطوط عريضة يكاد لا يخرج عنها، أهمها:

أولاً، إن أي قرار تركي بخصوص سوريا سينطلق ابتداءً من مفردات الأمن القومي التركي قبل أي حسابات متعلقة بسوريا وثورتها وشعبها.

ثانياً، إن موقف أنقرة بات دفاعياً كما سبق ذكره ولم يعد قادراً على القيام بمناورات كبيرة متعلقة بإنفاذ رؤية أنقرة لحل الأزمة، مثل إسقاط النظام أو نصرة المعارضة.

ثالثاً، منذ فترة وقرار أنقرة يتراوح بين اختيار التدخل في سوريا – بغض النظر عن الطريقة والمستوى – وتحمل التبعات، أو الترقب في انتظار ظروف أفضل مع ما يحمله ذلك من مخاطر الاضطرار للتورط في ظروف أصعب، فهي بين خيارين أحلاهما مر.

رابعاً، لا تستطيع أنقرة – ولا تريد – أن تخرج عن السقف الدولي في سياستها الخارجية بشكل عام والأزمة السورية بشكل خاص. وعليه فإن أي خطوة قد تقدم عليها ستحتاج إلى أرضية قانونية مثل قرار أممي أو خطة من التحالف الدولي أو حلف شمال الأطلسي.

خامساً، لا تستطيع تركيا – ولا تريد – أن تقوم بخطوة منفردة ولا حتى بالتعاون مع دولة أو اثنتين، بل تصر على أن أي تدخل ينبغي أن يكون دولياً، بحيث تتوزع المسؤوليات وكذلك التبعات على الجميع[42].

سادساً، يمكن اعتبار المشروع السياسي الكردي في شمال سوريا أولوية بالنسبة لأنقرة، وبالتالي فإن أي قرار تركي سيضع نصب عينيه هذا المشروع، وبالتالي فهو عامل محدد جداً في صياغة القرار التركي أياً كان.

سابعاً، يدرك صانع القرار التركي أن الأمور بمآلاتها، وما زال يؤمن بأن التدخل في سوريا سيكون توريطاً له بشكل أو بآخر، ولذلك فالمهم بالنسبة له ليس التدخل بحد ذاته بل الشكل والطريقة والمرجعية والانعكاسات، بحيث لا يكون تدخله تفصيلاً يدعم في نهاية المطاف مخطط تقسيم سوريا الذي يعتبره سيناريو كارثياً على مصير سوريا وتركيا في آن معاً[43].

 

وعليه، فإن هذه المحددات والخطوط العريضة تصلح أن تكون إطاراً يمكن من خلاله فهم المواقف التركية واستشراف تطوراتها في المستقبل تجاوباً مع أي متغيرات متعلقة بالأزمة السورية أو المنطقة بشكل عام. وهي سياقات عامة ومحددات رئيسة ستحافظ على أهميتها ودورها في صناعة القرار التركي على المدى المتوسط – البعيد ما لم تحصل تغيرات جذرية، وهو ما سعت هذه الورقة لتجليته وتأطيره كوعاء شارح لآلية اتخاذ القرار في أنقرة، أبعد من مجرد التركيز على اللحظة الآنية وتعقيداتها.

[1] Fernand Braudel, A History of Civilizations, New York: Penguen 1993, p. 55.

 

[2]  يتراوح طول الحدود التركية – السورية في عدد من المصادر التركية بين 877 كلم و911 كلم.

 

[3]  أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة محمد جابر ثلجي وطارق عبدالجليل، طبعة 10، (مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2010)، ص 145  – 169.

 

[4]  ستيفن لونغريج، سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ترجمة بيار عقل، دار الحقيقة، ص. 298.

 

[5]  أديب صالح عبد اللهيبي، العلاقات السورية السوفييتية 1946 – 1967 : دراسة تاريخية، (دار غيداء للنشر والتوزيع، 2011)،  ص 121.

 

[6]  عقيل سعيد محفوظ، سوريا وتركيا: الواقع الراهن واحتمالات المستقبل، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كانون الثاني/يناير 2012): http://www.dohainstitute.org/file/get/2821b630-b92d-4af2-9981-70ec70cf9da2.pdf

[7]  سعيد الحاج، تقدير استراتيجي (84): تركيا والقضية الفلسطينية بعد الانتخابات البرلمانية، (مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، تشرين الثاني/نوفمبر 2015): http://goo.gl/P29EBa

 

[8]  ريان ذنون العباسي، إسرائيل ومشروع جنوب شرقي الأناضول في تركيا، دنيا الوطن، 19/11/2009: http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2009/11/19/180327.html

[9]  أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة محمد جابر ثلجي وطارق عبدالجليل، طبعة 10، (مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2010)، ص 145.

 

[10]  أحمد داود أوغلو، مصدر سابق، ص 170.

 

[11]  أحمد داود أوغلو، مصدر سابق، ص 612.

 

[12]  رغم الهجوم الأخير تركيا لا ترغب في التورط بالحرب الدائرة بسوريا، الوسط، 5 تشرين الأول/أكتوبر 2012: http://www.alwasatnews.com/news/706521.html

[13]  عقيل محفوظ، السياسة الخارجية التركية الاستمرارية والتغيير، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2012)، ص 103.

 

[14]  مفاوضات سلام غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل برعاية تركية، الدستور الأردنية، 22 أيار/مايو 2008: http://goo.gl/bBwh32

 

[15]  اتفاق إيران النووي مع البرازيل وتركيا، الجزيرة نت، 1 آذار/مارس 2015: http://goo.gl/yyv8KR

 

[16]  وزير الخارجية التركي: التحالف الدولي لم يتخذ قراراً بعد للتدخل العسكري في سوريا، ترك برس، 13 شباط/فبراير 2016: http://www.turkpress.co/node/18501

[17]  أحمد داود أوغلو، مصدر سابق، ص 389.

 

[18]  الحكومة التركية تعلن رغبتها بتحسين العلاقات مع العرب، روسيا اليوم، 13 كانون الأول/ديسمبر 2014: https://goo.gl/nM13Ay

 

[19]  هي حركة احتجاجية على خطة للحكومة التركية لإعادة هيكلة ميدان تقسيم وسط مدينة اسطنبول كانت ستتضمن قطع بعض الأشجار في نهاية أيار/مايو 2013، تحولت بسرعة إلى حركة احتجاجية واسعة وأعمال شغب، اتهمت الحكومة أطرافاً داخلية وخارجية بتأجيجها وإذكائها لإسقاطها.

 

[20]  اتهامات طالت أبناء وزراء في حكومة العدالة والتنمية ورئيس بلدية أحد أحياء إسطنبول وبعض رجال الأعمال المقربين من الحكومة التركية دمجت كلها في قضية واحدة وتم القبض عليهم في 17 كانون الأول/ديمسبر 2013، ثم تمت تبرئتهم لاحقاً، واعتبر المحققون والقضاة الذين وقفوا وراء هذه القضايا جزءاً من “كيان مواز” للحكومة داخل مؤسساتها يسعون لقلب نظام الحكم عبر القضاء، وما زالت محاكماتهم أمام القضاء سارية حتى اليوم.

 

[21]  أنقرة تسمح باستخدام “إنجيرليك” ضد تنظيم الدولة، الجزيرة نت، 24 تموز/يوليو 2015: http://goo.gl/kPpA3F

 

[22]  طائرات تركية تشارك لأول مرة بالتحالف الدولي، الجزيرة نت، 29 آب/أغسطس 2015: http://goo.gl/aVHsU0

 

[23]  اردوغان: الأسد يمكن أن يشارك بفترة انتقالية، العربية، 25 أيلول/سبتمبر 2015: http://goo.gl/uTbVtI

 

[24]  سعيد الحاج، انعكاسات الأزمة مع روسيا على تركيا استراتيجياً، الجزيرة نت، 14 كانون الأول/ديسمبر 2015: http://goo.gl/tu4GmX

[25]  توقيع 50 اتفاقية خلال اجتماعات مجلس التعاون السوري – التركي، بي بي سي العربية، 23 كانون الأول/ديسمبر 2009: http://www.bbc.com/arabic/middleeast/2009/12/091223_dh_syria_turkey_tc2.shtml

[26]  تركيا تعلن عزمها اقامة منطقة تجارة حرة مع سورية ولبنان والأردن دون قيود التأشيرة، سوريا اليوم، 10 حزيران/يونيو 2010: https://goo.gl/P7anGp

[27]  أنقرة تغلق سفارتها في دمشق، روسيا اليوم، 26 آذار/مارس 2012: https://goo.gl/cELcgg

 

[28]  أنظر: http://www.haberler.com/suriye-icin-de-yol-haritasi-2688695-haberi

[29]  مؤتمر المعارضة السورية الأول ينطلق من تركيا اليوم بدعم من رجال أعمال سوريين، الشرق الأوسط، 1 حزيران/يونيو 2011:http://archive.aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=11873&article=624500#.VtNgB_mLSM8

 

[30]  أنظر بيان وزارة الخارجية التركية رقم 82 لعام 2011، بتاريخ 25 آذار/مارس 2011: http://goo.gl/hr6VVW

[31] Four messages for Assad, Dailysabah, 7 April 2011: http://www.dailysabah.com/world/2011/04/07/four-messages-for-assad

[32]  اردوغان يحذر من تكرار مذبحة حماة، الجزيرة نت، 2 أيار/مايو 2011: http://goo.gl/qq4geg

 

[33]  في 19 كانون الثاني/يناير 2014، أوقفت قوات من الشرطة والدرك التركيين ثلاث شاحنات تتبع لجهاز الاستخبارات التركي متجهة إلى سوريا بقرار من أحد المدعين العامين، على اعتبار أنها تحمل أسلحة. وقد تفاعلت الأخبار بخصوصها محالياً ودولياً على خلفية اتهام أنقرة بدعم القاعدة وتنظيم الدولة بالسلاح. في حينها دافعت الحكومة بأن الشاحنات كانت تحمل “مساعدات” للتركمان في سوريا وأنها لا تحمل سلاحاً، ورفعت قضايا ضد من شارك في ترتيب العملية وبعض الصحافيين الذين تحدوا قرار حظر النشر بشأنها، واعتبرت قضية خيانة لمصالح البلاد لوصمها بالإرهاب. وفي تعليق له بعد سنة ونصف على الموضوع قال الرئيس التركي اردوغان جملة قد يفهم منها اعتراف منه بدعم التركمان بالسلاح: “ماذا الذي سيختلف إن كان في الشاحنات أسلحة أو لم يكن؟!”. أنظر مثلاً: http://www.bbc.com/turkce/haberler/2015/11/151127_mit_tirlari_neler_olmustu

[34]  بنود التفاهم المشترك في “فيينا 2″، سكاي نيوز عربية، 31 تشرين الأول/أكتوبر 2015: http://goo.gl/XXjMAU

[35]  سعيد الحاج، التنافس الأمريكي – الروسي على دعم أكراد سوريا، عربي 21، 22 شباط/فبراير 2016: http://goo.gl/YZu8td

[36]  “قوات سوريا الديمقراطية” تحرر سد تشرين من تنظيم “الدولة الإسلامية”، فرانس 24، 26 كانون الأول/ديسمبر 2015: http://goo.gl/CsjL17

[37]  مجازر روسية وواشنطن تنتقد “وحشية نظام الأسد” – خط أحمر تركي للأكراد في أعزاز، المستقبل، 16 شباط/فبراير 2016: http://www.almustaqbal.com/v4/article.aspx?Type=NP&ArticleID=693845

[38]  4 مقاتلات سعودية تحط في قاعدة إنجيرليك التركية، وكالة الأناضول العربية، 26 شباط/فبراير 2016: http://goo.gl/2uJ1Rz

[39]  السعودية وتركيا في سوريا: هل صار التدخل العسكري وشيكاً، ترك برس، 27 تشرين الأول/أكتوبر 2015: http://www.turkpress.co/node/14323

[40]  الناتو يحذر تركيا بعدم الوقوف إلى جانبها في حال التصعيد العسكري مع موسكو، الميادين، 19 شباط/فبراير 2016: http://goo.gl/iKuLvx

[41]  داود أوغلو يطلق صرخة عتاب إلى جامعة الدول العربية، شبكة سوريا مباشر، 24 شباط/فبراير 2016: http://slnnews.co/?p=40648

[42]  تركيا: لا قرار من التحالف الدولي بالتدخل البري، إيلاف، 15 شباط/فبراير 2016: http://elaph.com/Web/News/2016/2/1072693.html

[43]  قلق تركي من احتمالات تقسيم في المنطقة، الجزيرة نت، 26 شباط/فبراير 2016: http://goo.gl/d9an8K

 

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

المواجهة التركية - الروسية في سوريا

المقالة التالية

محددات السياسة الخارجية التركية إزاء مصر

المنشورات ذات الصلة