في لقائه مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان في برنامج “بلا حدود” ، سأل الإعلامي البارز أحمد منصور ضيفه: لماذا لا تزور قطاع غزة بنفسك وتكسر الحصار؟؟ فكان رد اردوغان حينها: “لا أريد لزيارتي أن تكون عرضاً (شو) إعلامياً، بل أن تفيد فعلاً، ولذلك أنتظر لها الظروف المناسبة”. فهل الظروف الحالية مناسبة لزيارة الزعيم التركي للقطاع؟؟ وما هي المعاني والأبعاد السياسية لتلك الزيارة؟؟ وما تأثيرها على العلاقات التركية-“الإسرائيلية” المتوترة أساساً؟؟
ما يسترعي الانتباه ابتداءً أن الظروف السياسية المحلية والإقليمية وحتى الدولية مختلفة تماماً هذه المرة، إضافة إلى أحداث مرتقبة تأتي هذه الزيارة بين يديها. فالزيارة تأتي بعد الانتخابات التركية التي جددت الثقة بحزب العدالة والتنمية حاكماً وحيداً لتركيا وعنواناً لاستقرارها السياسي ونموها الاقتصادي، المنعكسان على السياسة الخارجية التركية قوة ً وانفتاحاً وقدرة ً على التفاعل والتأثير (ما يسميه الحزب بفترة الأستاذية)، خاصة بعد أن طرقت تركيا أبواباً كانت من قبل حكراًُ على أطراف أخرى، مثل المصالحة الفلسطينية وملف الجندي الصهيوني الأسير. كما تأتي الزيارة بعد الربيع العربي الثائر الزاهر، خاصة في مصر التي يبدأ اردوغان زيارته منها، وبعد الاتفاق الأوّلي على بنود المصالحة الفلسطينية.
ما يزيد من أهمية الزيارة – إن تمت – أنها تأتي قبل أيام من موعد نشر نتائج تقرير لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق، والتي يتوقع أن تدين “إسرائيل” لهجومها على سفينة مرمرة الزرقاء وقتلها تسعة من المتضامنين الأتراك في الحادثة الشهيرة، وفي وقت تتعالى فيه الأصوات من داخل الكيان الصهيوني داعية إلى تجاهل سياسة “ليبرمان” والإسراع في تقديم الاعتذار الذي تطلبه تركيا قبل الوصول إلى نقطة اللاعودة في العلاقات الثنائية، خاصة وأنهم خبروا قوة تركيا في قراراتها وثباتها على مواقفها المبدئية، ومنها حادثة إجلاس السفير التركي على كرسي منخفض، حين اضطرتهم تركيا إلى تقديم الاعتذار خلال 24 ساعة.
أمور أخرى كثيرة تجعل من الزيارة المرتقبة حدثاً سياسياً بارزاً يُبنى عليه. فالزائر هو رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان، بكل ما له من سمعة طيبة ومحبة في قلوب الفلسطينيين وخاصة سكان القطاع المحاصر، وبكل ما قدم من مواقف قوية وشجاعة في نصرة القضية الفلسطينية. وهو رئيس وزراء تركيا، القوة الاقليمية الصاعدة سياسياً واقتصادياً، وعضو حلف شمال الأطلسي، وإحدى أكثر الدول (إن لم يكن أكثرها على الإطلاق) تقديماً للدعم للفلسطينيين على جميع المستويات، وهو بذلك سيكون أبرز شخصية سياسية تزور القطاع منذ عام 2007. كما أن الزيارة مخطط ٌ لها أن تكون من معبر رفح المصري وليس عبر المعابر التي تحكم عليها “إسرائيل” سيطرتها.
كل هذه الاعتبارات جعلت بعض المراقبين يصنفون الزيارة ضمن الضغط التركي السياسي على “إسرائيل” لتقديم الاعتذار ودفع التعويضات، خاصة أن اردوغان ربط الزيارة ب”الظروف الملائمة”، الأمر الذي اعتبره البعض مواربة ً للباب وفتحاً لطريق العودة عن القرار في حال تقديم الاعتذار.
الزيارة المرتقبة ستكون كسراً سياسياً واضحاً للحصار المفروض على القطاع والتي تحاول القيادة “الإسرائيلية” شرعنته دولياً، ودعماً واضحاً للوضع السياسي القائم في القطاع وعنوانه حركة حماس وحكومتها، خاصة في ظل أجواء مصالحة ستؤدي – إن طبّقت – إلى إعادة تفعيل منظمة التحرير وزيادة قبول الحركة إقليمياً ودولياً. فما المطلوب من الحكومة والحركة تحديداً في ظل هذه المعادلة؟
المطلوب هو الدخول على خط الترتيبات المصرية-التركية للزيارة، والإحاطة بتفاصيلها، وإيصال رسالة تطمينات واضحة عنوانها الضمانات والاحتياطات الأمنية للزيارة، إضافة إلى برنامج عملي متكامل للزيارة يوضح حقائق ومظاهر ملفي الحصار وإعادة إعمار القطاع تحديداً، الأمر الذي سينعكس قطعاً بالإيجاب على الملفين، لأن المعاين ليس كالمخبر.
الأهم في موضوع الزيارة هو الرسائل السياسية التي سيرسلها اردوغان خلالها قولاً وفعلاً (لا تنسوا أن عمرو موسى زار القطاع ولكن دون اللقاء مع أي شخصية رسمية فيه)، الأمر الذي سيكون فاتحة لمرحلة جديدةٍ في السياسة التركية، إزاء القضية الفلسطينية والقطاع تحديداً، مختلفةٍ تماماً بمفرداتها ومظاهرها.
يبقى أن نقول أن قطاع غزة المحاصر كان قد غيّر معالم السياسة التركية الخارجية وفتح صفحة تاريخية في ملف العلاقات التركية-“الإسرائيلية”، فهل يفتح الآن صفحة ومرحلة أخرى؟