غزة جرح في قلوب الإنسانية وما يجري فيها هو ظلم تعلم به الإنسانية جمعاء”.
“لا يوجد حساب بين الأخوة، بل التغافر والتسامح”.
“تحياتي إلي عيون الأمهات الفلسطينيات الدامعات، أود أن أحيي الآباء والأمهات والأطفال واقبلهم من عيونهم فردا فرداً”.
لم تكن هذه كلمات السيد محمود عباس في مؤتمر سفراء فلسطين، بل كلمات رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان، الرجل الذي لم يكن يوماً إلا نصيراً لفسطين وقضيتها وشعبها، رغم اتهام البعض له (بعض السياسيين والدبلوماسيين الفلسطينيين منهم) باستغلاله اسم فلسطين في سياساته.
استضاف اردوغان المؤتمر وتكلم في افتتاحه، رغم ما يحمله ذلك من معنى سياسي سينعكس حتماً على علاقات تركيا المتوترة أساساً مع “إسرائيل”، وربما يمتد الأمر إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي أعلنت موقفها صريحاً في موضوع التوجه إلى الأمم المتحدة.
تكلم السياسي المحنك بالعقل تارة والعاطفة طوراً، عن القدس حيناً وعن غزة حيناً آخر، انتقد “إسرائيل” في جملة والمجتمع الدولي في أخرى، خاتماًَ كلامه بأبيات لمحمود درويش قال عقبها فوراً: “كان هناك دوماً فلسطين، وهناك الآن فلسطين، وستكون في المستقبل فلسطين”.
بعض المتابعين لاحظ أن “سفراء فلسطين” كانوا قليلي الحماسة والتصفيق أمام كلمة اردوغان، متهماً اياهم بضعف الوعي السياسي و”التخطيط” مرجعاً ذلك إلى أنهم – كما الشعب الفلسطيني ككل – “فلاحون” لا يدركون متاهات السياسة.
سيء جداً أن يكون غاية ما يفعله بعض المثقفين والإعلاميين وأصحاب الفكر والرأي هو التبرير لأخطاء السياسيين. كلنا يعلم أن كلام وأفعال رئيس الوزراء التركي لا تستهوي هؤلاء القوم، وكلنا يعلم أن بعضهم أعلن صراحة أن مواقف تركيا بقيادته تصب في خانة دعم فصيل على فصيل في الوضع الداخلي الفلسطيني. نعلم أن السيد محمود عباس لا تهمه دموع الأمهات، ولا يهزه دم الشهداء (اللذين أهانهم وتجرأ عليهم في أكثر من مناسبة)، وليس مستغرباً أن يكون “بعض” سفرائه على نفس النهج.
ربما لذلك خلت كلمة عباس من شكر اردوغان على مواقفه من حصار غزة (وتقرير لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق على وشك الصدور) أو لنيته التوجه إليها قريباً لكسر الحصار عنها، تماماً كما خلت كلمته من ذكر القدس واللاجئين والحصار.
بينما يقول اردوغان: “يجب على إسرائيل أن توقف إجراءاتها في القدس الشرقية المحتلة وأن توقف الاستيطان كافة وان تزيل العوائق التي تضعها لعرقلة الفلسطينيين”، يقول عباس، الذي اعتبر في كلمته أن “أوسلو” كانت أهم محطات نضال الشعب الفلسطيني (!): “إذاً نحن لم نذهب إلى الأمم المتحدة من أجل عزل إسرائيل بل من أجل أن نتعايش مع دولة إسرائيل”.
وبينما يعلي اردوغان صوته قائلاً: “غزة جرح في قلوب الإنسانية وما يجري فيها هو ظلم تعلم به الإنسانية جمعاء”، نسمع السيد محمود عباس صادحاً: “المفاوضات هي خيارنا الأول والثاني والثالث، إنما إذا أقفلت الأبواب في وجهنا فلا بد أن نذهب إلى الأمم المتحدة لنشكو أمرنا للأمم المتحدة بعد الله…. حتى إذا حصلنا أو لم نحصل على ما نريد فيبقى الطريق الوحيد الذهاب إلى المفاوضات”.
لن أناقش الذهاب إلى الأمم المتحدة وفوائده ومضاره، ولن أدخل في تفاصيل الحدث واحتمالات نجاحه، ولن أطرق أبواب التكهن بما سيحدث في حال نجح المسعى أو فشل. كل الذي أقوله أن عباس جزم أمام الجميع أن ” شعبنا الفلسطيني، كلنا، كل الأطياف الفلسطينية من حماس إلى فتح إلى كل التنظيمات متفقون على خيار الأمم المتحدة”، وما نعرفه أن هذا غير صحيح. على الأقل نحن سمعنا من هنية عدم الفائدة من التوجه، وقرأنا لأحمد بحر عن مخاطر هذا التحرك، إضافة إلى مواقف فصائل متعددة انتقدته، فضلاً عن أن أغلب إن لم يكن كل تلك الفصائل لم تستشر أو تناقش في الموضوع.
وقبل ان أنهي، كان لزاماً علي أن أقول أن السيد محمود عباس هو رئيس حركة التحرير الفلسطيني- فتح، ورئيس سلطة الحكم الذاتي المحدود طبقاً لاتفاقية أوسلو، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية بحالتها الحالية التي لا تعبر عن الشعب الفلسطيني كله ولا تمثله كله، فضلاً عن مخالفاتها القانونية والتشريعية والواقعية، لذلك فهو ليس رئيساً للشعب الفلسطيني كله، وليس تحديداً رئيسي أنا اللاجئ الفلسطيني، ولذلك أشرت له ب”السيد محمود عباس”. ربما سيغضب هذا الكلام بعض الأصدقاء، لكن الحق أحق أن يقال، والمصارحة والمكاشفة أقصر طرق الاتصال بين البشر.
كانت فلسطين والقدس وغزة حاضرة في كلام اردوغان وشبه غائبة عن كلام عباس، فمن منهما كان يعبر عن فلسطين وشعبها ويمثلهما هناك؟؟؟