ما زالت الشعلة التي أطلقها محمد البوعزيزي تتنقل بين البلاد العربية كالشعلة الأولمبية ترجو هدفها، ولمّا يصل قطار الثورات العربية بعد إلى محطته النهائية التي تُمكّن من النظرة المتعمقة الفاحصة، والرؤية النقدية الدقيقة، في سبيل استخلاص العبر والعظات، من هذه الفترة قصيرة الزمن كبيرة الأثر في التاريخ الحديث للمنطقة بل –دون مبالغة- وللعالم.
لكن هذه الحقيقة لا تمنع من بعض الوقفات التقييمية، واستخلاص بعض الفوائد المستعجلة، التي تغذي سياق التحركات والثورات والتغيرات، سيما للبعيدين جغرافياً عنها. فهذه الثورات المباركة في غير بلد عربي غيرت –إلى جانب الواقع السياسي والنظم الحاكمة- الكثير من المفاهيم والقواعد السلوكية والأفكار المسبقة.
حديثي هنا ليس للثائرين، ليس للمتظاهرين، ليس لرواد التغيير الحقيقيين في الميدان، فهؤلاء ليسوا بحاجة لكلام من أمثالي، حيث أنه ورد في الأدبيات أنه “لا يفتي قاعد لمجاهد”. هؤلاء الثوار عرفوا طريقهم فسلكوه، وحلموا بخلاصهم فالتزموه، وحتى لو أخطأوا هنا أو هناك، يبقى يحسب لهم أنهم في أتون النار، وأنهم في المقدمة من هذه الأمة.
حديثي هنا للمثقفين والناشطين، والدعاة والمصلحين، لأهل الرأي والرؤية، للمجاهدين والمقاومين والمناضلين، لكل من حمل هماً أو حلماً، لكل من عمل بالشأن العام وحلم يوماً بنهضة بلاده وأمته. حديثي لمن عاش حياته كلها يحلم بأن يبقى ليرى يوماً هذه الأحداث تتحقق على أرض الواقع، وأوذي في سبيل ذلك زمناً طويلاً. وسأسميهم هنا اختصاراً ب”المصلحين”.
إنه من البدهي أن أول ما أثبتته الثورات المتتالية هي ما كان يدعو وينظر له هؤلاء المصلحون منذ عشرات السنين، أن الشعوب لم ولن تموت، وأنها قادرة على الفعل والتغيير، وأن الظلم لا يدوم، وأنه:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة .. فلا بد أن يستجيب القدر
ثم إن هذه الثورات عادت لتؤكد وحدة هذه الأمة ببعديها العربي والإسلامي، وأنها مثل “الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. فوحدة الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا والعادات والتقاليد، إلى جانب وحدة المشاكل والمصائب والمحن، تصب في خانة وحدة المصير والثورة. ولربما هذا ما يفسر سرعة انتشار نار الثورات في هشيم النظم المستبدة واحداً تلو الآخر، وبسيناريوهات متشابهة معظم الأحيان.
كما أثبتت الثورات -وما زالت- أن الحرية والكرامة أغلى ما يملك الإنسان وأكثر ما يدافع عنه من القيم، وألا شيء من الحجج الواهية يمكن أن يبرر سلب الشعوب هذه الحقوق الرئيسة. فلا الخوف من التدخلات الأجنبية، ولا الحصار الإقتصادي، ولا فزاعة “الأصوليين” الكاذبة، ولا حتى شعار المقاومة والممانعة الفضفاض يمكن أن يغطي جرائم التعسف والظلم والطغيان السائدة في معظم هذه الدول.
لكن أكثر ما يلفت النظر –ربما- أن الشعوب بتحركها العفوي في غير مرة وفي أكثر من بلد، تخطت كل هؤلاء المصلحين بأميال، رغم أن جل ما كان يرنو إليه هؤلاء هو تحرك الشعب وتركه لمربع الصمت العاجز. فإذا ما تحرك الشارع وثار وجد الكثير من هؤلاء المصلحين أنفسهم في مواقع النظّارة، لا يستطيعون قيادة ولا مشاركة، بل يكتفون بالمتابعة والمشاهدة والتشجيع في أحسن الأحوال، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بثورة بلد آخر.
لا أنكر أن الكثير من هؤلاء المصلحين كان وما يزال في الصفوف الأولى في أكثر من بلد وثورته، خصوصاً في مصر ومن قبلها تونس، لكن يبدو أن المماطلة التي تسبب فيها “العقيد” والتأخير الذي أحدثه في مواعيد قطار الثورات قد أصاب البعض بالملل أو الإحباط أو التذمر، سيما بين المتعجلين لاقتطاف الثمار. هنا قل الحماس والمتابعة وبدرجة أكبر المشاركة. إضافة إلى معضلة القطرية الضيقة التي يعاني منها الكثيرون -إلا ما رحم ربي وقليل ما هم- حيث ترى الإهتمام والهمة في ثورة البلد الفلاني قد تلاشت واختفت في حالة البلد الأخرى، وكأن “سياكس-بيكو” لم تقسم الأرض بل قسمت الأرواح والمهج، في طريقة مستهجنة ومغايرة لما يدعو له هؤلاء المصلحون من وحدة وترابط.
إنها دعوة أخوية صادقة لشخذ الهمم وتقدم الصفوف، اهتماماًَ ومتابعةً ومشاركة وتخطيطاً وتنظيراً وتنظيماً وإعلاماً و-الأهم- إيماناً بحتمية النصر والتغيير. إنها دعوة لصناعة الحدث لا الإكتفاء بمشاهدته، فتاريخية اللحظة توجب على الجميع وضع كل ثقله في ميزان الثورات لترجح كفة الشعوب، ولا عذر لقاعد.
وهنا همسة خاصة في أذن “الدعاة” من أحبابنا في الحركات الإسلامية. كنتم وما زلتم العنوان الأبرز للتغيير، وأمل الأمة في تحقيقه، دون استكبار أو تفرد أو إقصاء. كنتم وما زلتم تؤمنون بالفجر القادم والنصر التليد. لا أدعوكم فقط إلى المشاركة في الثورات وفعالياتها ضمن التأطير الضيق لمفهوم “الثورة”، بل لتجديد النشاط والعمل الدؤوب في إطار المفهوم الأشمل والأوسع لمنهج الثورة والتغيير، منهج الإسلام في تغيير الواقع. أنفضوا عن أنفسكم غبار الفتور، وجددوا النية والهمة، والزموا العمل والدعوة بلا كلل أو ملل، فقد أوشك الفجر أن يبزغ والظلام أن ينحسر.
“وقل إعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”