باكتمال المرحلة الأولى من الانتخابات في مصر (أكبر الدول العربية وأكثرها تأثيراً)، أصبح واضحاً بشكل لا لبس فيه تصدر “الإسلاميين” للمشهد السياسي في كثير من الدول العربية، حيث سبق لهم الفوز في تونس والمغرب وقبلهما الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولن تكون ليبيا واليمن وسوريا استناءً كما يبدو. الآن يستطيع “الإسلاميون” أن يتكلموا –وبالأرقام- عن حضورهم في المشهد السياسي وثقلهم في الشارع وثقة الشعب بهم.
الإنتخابات الأخيرة في البلدان المذكورة تؤكد أن غياب الحركات والأحزاب الإسلامية سابقاً عن الفعل السياسي كان بفعل سياسة الأنظمة الحاكمة القائمة على الإقصاء والمنع والملاحقة، ولم يكن يوماً لضعف في الأداء أولعدم ثقة الشارع بالمشروع الإسلامي أو كفاءة المنادين به.
كل المتغيرات التي شهدتها هذه الدول وغيرها تشير إلى نشوء نظام سياسي جديد في المنطقة، الإسلاميون منه في الواجهة والقيادة في كثير من الدول، وشريك قوي وفاعل – على أقل تقدير – في دول أخرى، الأمر الذي ينبئ بتغيير منظومات العمل المشتركة في المستقبل مثل الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، إضافة إلى تأثر دول أخرى بفعل “القوةالناعمة” لرياح التغيير. ما نحن إزاءه إذاً مرحلة جديدة تماماً في المنطقة تختلف أبجدياتها وآليات عملها عن المرحلة السابقة مئة وثمانين درجة، الأمر الذي يفرض على كافة الأطراف المشاركو في العملية السياسية – وفي المقدمة منهم الإسلاميين – مفاهيم جديدة وخطاباً متجدداً وآليات عمل إبداعية تستفيد من أخطاء الماضي وتتعامل مع معطيات الحاضر لتصنع المستقبل.
.أول ما يجب على الأحزاب والجماعات الإسلامية المتصدرة للمشهد تغييره هو نمط التفكير والمفاهيم التي حكمت المرحلة السابقة، فلم تعد هذه الأطراففصائل معارضة محظورة ومهمشة وملاحقة، بل صارت جزءاً من منظومة الحكم، مما يتطلب بالضرورة تغيير مفردات خطابها الناقد الساخط إلى شعارات العمل والإصلاح وقبول الآخر.
.ينبغي للخطاب السياسي الإسلامي أيضاً أن ينتقل من مرحلة التنظير عن بعد إلى مرحلة معايشة الواقع – وهم يفعلون ذلك – وتشخيص مشاكله وأسبابها، ثم اجتراح الحلول المناسبة. فالحاجة ماسة جداً لأن يتحول الخطاب الوعظي المباشر إلى توصيف دقيق لمشاكل المواطن الحياتية اليومية وما يحتاجه من خدمات. وهو في ذلك مطالَب بعدم التعجل واعتساف المراحل بل اعتماد سياسة النفس الطويل في التخطيط والتأني والمرحلية في التنفيذ.
.كما ينبغي بداهةً أن يتحول التركيز من الخطاب والشعارات إلى العمل الدؤوب في مختلف المرافق والمراكز والمدن، فالنظم السابقة خلّفت وراءها تركة ثقيلة من الركود الاقتصادي والفساد الإداري والتبعية السياسية، وأرجعت بلدانها عشرات السنين إلى الوراء في قطار التنمية والحضارة، وكل ذلك يحتاج لخطط واضحة وعمل متواصل ونفس طويل لإصلاح ما فسد.
.وإنه من الأهمية بمكان أن تنجح هذه الحركات الإسلامية – على اختلاف توجهاتها – في فصل العمل الدعوي عن ذاك الحزبي (ولا أقول السياسي)، وأن تترك كل مفردات السياسة اليومية من سجالات ونقاشات وأخذ ورد لأحزابها السياسية المكونة، وأن تتفرغ للعمل الدعوي والاجتماعي والثقافي والإغاثي ونحوها مما لا يسع السياسيين العمل فيه، حامين بذلك العمل الحزبي من تدخلات أهل الدعوة والوعظ، والعمل الدعوي من تدخلات السياسيين، إضافة لما في احترام التخصص والتفرغ من فوائد للعمل والعاملينومن ورائهم الشعب.
.محطة أخرى سيمتحن فيها الإسلاميون هي طريقة عملهم وإدارتهم للأمور بين التفرد والتعاون، فإنه مما لا ينبغي نسيانه أن المرحلة الانتقالية بعد عشرات السنين من الفساد والركود والتقهقر تحتاج جهد الجميع، وأن الثورات التي غيرت الواقع شارك فيها الجميع (وإن كان “للإسلاميين” يد طولى فيها)، وأن المشاكل المزمنة والمتراكمة والملفات الهائلة التي تنتظرهم تحتاج لكل ذي علم واختصاص، ولكل أهل خبرة وكفاءة، بغض النظر عن الاتجاه السياسي أو الفكري. وإن مما يلاحظ أنهم حتى الآن نظرياً وعملياً وفي كل البلدان المتواجدين فيها يرفعون شعار “المشاركة لا المغالبة” مع كل التيارات السياسية المتواجدة في الساحة، ويطبقونه باقتناع وحرص.
.وبرغم الفترة الانتقالية وأعبائها الكثيرة، أرى أهميةً لأن تكون التغييرات المستحدثة كبيرة وعميقة وراسخة وطويلة المدى، ولذلك تحمل ملفات مثل إعادة صياغة الدساتير وفصل السلطات وتفعيل الرقابة وحرية الإعلام وغيرها أهمية قصوى. وهنا هم مطالَبون بالاستماع والمشاركة والعمل مع كل الاتجاهات الموجودة من الإسلاميين والقوميين واليساريين والليبراليين وغيرهم، دون استفراد برأي، ولكن أيضاً دون التنازل عن المبادئ ومطالب الشعب أمام دكتاتورية الأقلية (فإن كان هناك فس السياسة “تسلطُ أغلبية”، فإن فيها أيضاً “دكتاتورية أقلية”، وانظر إلى وسائل الإعلام المختلفة والخطاب السياسي لبعض الفئات، وتذكر معي مثلاً ذلك الكاتب والصحافي المرموق الذي “حارب” على مدى أشهر فكرة احتمالية فوز الإخوان في مصر بالأغلبية مؤكداً في كل مرة أن “كل” التيار الإسلامي لن يحصل على اكثر من 15 إلى 20 في المئة من الأصوات، ولم يبق إلا أن يحلف بأبنائه على ذلك).
هي مرحلة جديدة تماماً وتحمل أعباء ثقيلة تنوء بحملها الجبال، من الإصلاح الداخلي إلى التنمية الاقتصادية، ومن تفعيل المجتمع ومؤسساته المدنية إلى الحضور في الساحة الدولية، ومن محاربة الفساد إلى صياغة الدساتير، شاءت الشعوب أن يكون الإسلاميون في مقدمة من تثق بهم وتوكلهم عمها في قيادتها، مرحلة تستوجب من “الإسلاميين” خاصة رؤيةواضحة وعملاً دؤوباً وشاركة ومشاركة وتدرجاً في التغيير، ليكونوا عند ثقة الشارع بهم، وإلا فإن أي خيبة امل جديدة ستكون ذات تأثير سلبي عميق نحن ودولنا وشعوبنا في غنى عنه الآن.