فيما تقترب الثورة السورية من إنهاء عامها الأول، ما زال التفاعل العربي والإسلامي والدولي (شعبياً قبل رسمياً) معها دون المطلوب، الأمر الذي قاد أحد أقطاب المعارضة المفوّهين إلى الكتابة محاولاً تحري أسباب هذا التراجع، واضعاً إصبعه على جرح كبير، في صراحة يحسد عليها.
منذ اليوم الأول للثورة السورية (منذ أن كانت تسمى حراكاً) والحديث عن هذا التفاعل الضعيف سيد الموقف، خاصة عندما يتعلق الأمر ب”الأخوة الفلسطينيين”. كثير من الكتابات والتصريحات غمزت بشكل واضح من قناة تجاوب الفلسطينيين مع الثورة السورية وعدم دعمها علانية، ولئن حصلت حركة “حماس” على نصيب الأسد من اللوم باعتبارها رأس حربة المقاومة وبسبب خصوصية علاقتها مع النظام السوري وباعتبار دورها السياسي المتنامي، فإن الأمر ينسحب على جميع الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم ومواقعهم وأدوارهم.
ربما كان من المفارقات أن يُطلب من الحلقة الأضعف أن تتصدر المشهد وتعلن مواقف علنية قوية وواضحة، ولكنه من المفارقات أيضاً أن الأضعف هو بنفس الوقت الأقوى حضوراً ودوراً بدليل مطالبة الجميع له بموقف أوضح، بسبب الحب والاحترام والمصداقية التي يتمتع بها لدى مختلف الأطراف.
ولئن كان بديهياً ومن نافلة القول أن كل الشعوب تقف موقفاً وجدانياً وشعورياً واحداً ضد القتل والبطش والظلم ومع الشعب وتطلعاته المشروعة، إلا أن الحديث هنا عن المواقف العلنية الواضحة الصادحة. ولئن كان لكل فئة أو مجموعة أو حتى شعب أسبابه الخاصة أو مبرراته وحتى تقصيره في الحالة السورية، فإن الشعب الفلسطيني تحديداً له العديد من المبررات، ليس أولها أنه الحلقة الأضعف فعلياً في المنطقة، وأن لا ظهر له ليعتمد عليه، في حين ما زال موقف الراحل عرفات من غزو الكويت وما نتج عنه ماثلاً للعيان والأذهان. ثم إن الموقف الفلسطيني لن يستطيع تغيير شيء في المعادلة القائمة، في ظل خوف حقيقي على الفلسطينيين العزل المتواجدين في سوريا ولبنان، خاصة في حالة أي انفلات أمني او توتر طائفي قد تشهده الأراضي السورية.
إن الفلسطينين ليسوا دولة وهم غير قادرين على اجتراح الفعل في القضايا الكبرى، وما زالوا محتاجين للدعم والمؤازرة، وما زالوا يتعرضون للتحريض والتمييز في غير دولة مما يجعل بعض خوفهم مبرراً. ولئن تذكرنا التزام الفلسطينيين وفصائلهم المختلفة الصمت إزاء الثورة المصرية – التي قامت ضد نظام ساهم في حصار غزة والحرب عليها – يصبح من العبث العقلي والمنطقي والسياسي انتظار “مظاهرة في غزة ستقلب الأوضاع” كما طالب البعض. إن مظاهرة في غزة لم تخرج ضد مبارك، ولم ولن تخرج ضد الأسد (في تصوري في ظل الوضع القائم على الأقل) لأن القائمين على الأمر يعون الظروف والموازين والمآلات ويحسنون التقييم والفعل السياسي، وحسبهم أن غالبية الشعب السوري وثواره يقدرون ظروفهم ويجدون لهم العذر.
في هذه المعادلة الصعبة، يكون من المقبول أن تصدر أي انتقادات أو مطالبات ممن يقدم الدم يومياً ويضحي بالغالي والنفيس، ولكن من غير المقبول أن تتصدر المشهد شخصيات تدعي تمثيل الشعب والحديث باسم الثورة على خلاف الحقيقة.
من المعقول والمقبول جداً أن يطالب الشعب السوري (كما كل الشعوب المنكوبة) بمساندة ومؤازرة أكبر له ولقضيته، ولكن من غير المقبول أن يكون شغله الشاغل معاقبة أو محاسبة المتخاذلين أو المعذورين، في حين أن واجب الوقت هو كسب المترددين في الشارع السوري وخاصة دمشق وحلب، وتطمين المتخوفين إقليمياً ودولياً.
من المعقول والمقبول أن يتخوف بعض الفلسطينين من أي موقف علني ضد النظام القاتل لشعبه، لكن من غير المقبول أبداً أن يكونوا وجدانياً متشككين في الثورة وأهدافها.
من المقبول أيضاً أن يلام المقصرون في حق الثورة ودمائها، لكن من غير المقبول أن يخصص شعب دون آخر بهذا اللوم. من المقبول أن يطالَب الشعب الفلسطيني بدعم أكبر وأوضح لأشقائه في سوريا، لكن من غير المقبول أو المعقول أن يتم ذلك في إطار ابتزاز سياسي وتاريخي، من قبيل رد الجميل في جو من التفضل المدّعى. إن دعم الشعب السوري في محنته واجب أخلاقي ووطني وقومي وديني وإنساني، غير خاضع لأي حسابات أخرى، تماماً كما كان دعم الفلسطينيين دائماً، وحينها يصبح القول “بأننا لم نوفر دعماً لفلسطين إلا وقدمناه” من باب المنّة المرفوضة شرعاً ومنطقاً. والملفت أن الذين يتحدثون بهذا المنطق أبعد الناس ظاهراً عن الدعم والبذل. إن الوقوف إلى جانب أي شعب منكوب وذي قضية حق وواجب وشرف لمن يقوم به بغض النظر عن ماهية الطرفين.
من المقبول أن يرفض البعض (من المفروض أن يرفض الجميع) التدخل الأجنبي خوفاً على مصير ودور سوريا الدولة والكيان والوطن، لكن من غير المقبول أن يصبح هذا عنواناً تحتشد تحته عبارات ومواقف الدعم للنظام السوري الذي لا يتوانى حتى اللحظة عن قتل الآلاف من شعبه دون أن يرف له جفن.
من المقبول أن يعتب الأخوة على بعضهم البعض وأن يطالبوا بمواقف أعلى وأقوى وأوضح، لكن من غير المقبول أن يصبح الديدن هو تصيد الألفاظ والعثرات للتهجم على بعض الشخصيات المشهود لها بالصدق والأمانة وحسن الأداء.
من المقبول انتقاد المجلس الوطني السوري أو أداء بعض أفراده، خاصة في ظل أنباء عن تذمر الثوار أنفسهم من بطء وضعف أداء المجلس، لكن من غير المقبول وضع الجميع في كفة واحدة والتشكيك بهم.
من المقبول والمعقول – بل ربما من المفروض والواجب – إرسال رسائل تطمين إلى الشرق والغرب لضمان تحييد بعض المتربصين بالثورة وحشد أكبر تأييد سياسي ممكن لها عالمياً، لكن من غير المقبول أن تكون الرسائل من قبيل الوعد بتغيير خط سوريا الداعم للمقاومة ومواجهة العدو الصهيوني، الكلام الذي ورد على لسان غليون ولم يتراجع أو يعتذر عنه.
من المقبول والمعقول الضيق بمواقف البعض المتخاذلة من الثورة وتضحياتها، لكن من غير المقبول أن يحترف بعض المتحدثين باسمها (صدقاً أو ادعاءً) صناعة الأعداء بدل كسب الاطراف إلى صفها.
من المقبول أن يُخشى من تداعيات الأحداث في سوريا على القضية الفلسطينية، لكن من غير المقبول أو المعقول أو المتصور تقديم المصلحة الفلسطينية على دماء الشعب السوري. إن تقييم النظام السوري فقط من زاوية دعمه للمقاومة وموقفه الممانع (صدقاً أو ادعاءً) فيه قدر كبير من الزهد في الدم السوري المراق وقدر أكبر من الأنانية غير الواقعية وغير اللائقة.
من المقبول أن يبقى موقف الفصائل الفلسطينية العلني كما هو: حياد إيجابي ودعم لحق الشعب وكرامته، لكن من غير المقبول أن يُكتفى بذلك إن استمر القتل وزاد وتيرته على النحو الذي رأيناه مؤخراً في حمص، ويُخشى من استمرار مسلسله في مدن أخرى.
يبقى أن نقول أن الشعوب العربية والإسلامية موحدة، شعورياً ووجدانياًَ قبل الوحدة الحدودية والرسمية، ف”سايكس بيكو” سيئة السمعة -التي كرست مرحلة الدولة القطرية في العالم العربي – لم تنجح أبداً في تكريس الفصل الوجداني بين الشعوب.
يقولون أن تزييف التاريخ أسهل من تزييف الجغرافيا التي تفرض حقائقها على الواقع دائماً. هكذا أثبت التاريخ والجغرافيا وما زالا يثبتان أن تحرير القدس وفلسطين لم ولن يتم إلا من خلال سوريا ومصر قويتين وموحدتين. ولذلك أعيد القول:
في الشام قلبي وفي التحرير وجداني .. نصف جريح يناجي نصفه الثاني
في كل شطر لنا نار وملحمة .. يا رب رفقاً بإخواني وأوطاني
سالت دماء على الأسفلت فارتسمت .. خريطة العزّ من ألوان شريانِ