تغير الإسلاميين .. تطور أم تدجين؟

التغير والتبدل حال ملازمة للإنسان منذ بداية التاريخ الإنساني على وجه البسيطة، فرداً كان أم مجموعة. فالإنسان كائن اجتماعي يؤثر ويتأثر بعدة عوامل، متعلقة بالزمان والمكان والظروف والبيئة. فيكون تغيره أحياناً تطوراً نحو الأفضل، وفي أحيان أخرى ارتكاساً للأسوأ، مختااراً كان أم مضطراً.

والإسلاميون، كمجموعة بشرية انتظمت في عقد أيديولوجي يقوم على عدة أفكار ومبادئ، ليسوا استثناءً لهذه القاعدة العامة في علم الاجتماع البشري ولا بدعاً منه. ولسنا هنا نتكلم عن تطور بعض العلوم الإسلامية، كالفقه مثلاً، مع تطور العلوم أو تغير فهم بعض النصوص وفقاً للسياق التاريخي، بل نركز تحديداً على تطور آراء وأفكار بعض الجماعات والأحزاب الإسلامية، خصوصاً من يطلق عليها اصطلاحاً بحركات “الإسلام السياسي”، فيما يخص العمل السياسي والعام، ابتداءً بالديمقراطية ومروراً بالنظرة للآخَر وليس انتهاءً بالفن والثقافة.

فالمتتبع لحال هذه الجماعات الإسلامية، على اختلاف تياراتها ومع حفاظها على بعض الفروق البينية الواضحة، سيرى أنها تختلف اليوم اختلافاً يستحق صفة “الجذري” عما كانت عليه في ستينات وسبعينات القرن الماضي مثلاً، على مستوى التنظير والممارسة.

لقد اتسمت تلك الفترة بتشدد النظرة وشدة الممارسة، التي كانت إحدى تجلياتها مجموعات انتهجت العنف الداخلي، في ظل انتشار مصطلحات الحاكمية والجاهلية والعزلة (الشعورية) عن المجتمع. بينما سنجد أن من حرم العمل الحزبي والعملية الانتخابية سابقاً قد أسس مؤخراً أحزاباً سياسية ونافس في الانتخابات، بل ومارس العمل البرلماني فعلاً، بمن فيهم من حملوا السلاح بالأمس. بيد أن سخرية الأحداث لم تتوقف عند هذا الحد، وإنما وصلت بسرياليتها إلى الحد الذي يقف فيه هؤلاء (الكافرون السابقون بالديمقراطية) موقف المدافع عن اختيار الشعب في صناديق الانتخابات أمام من نظـّروا لذلك عشرات السنين قبل أن يرموا بالديمقراطية والانتخابات عرض الحائط ويسحقوهما بجنازير الدبابات.

وفي مجال آخر، قد يبدو (ظاهرياً فقط) غير ذي صلة بما سبق، تطور موقف الإسلاميين عموماً من الثقافة والفن من ستينات القرن الماضي حتى الآن، من الرفض إلى إيجاد النظير إلى تطور هذا “البديل الإسلامي” من ناحية الشكل والمضمون (تحديداً استعمال الموسيقى)، وصولاً لأشكال وموضوعات أخرى لم تكن معروفة في أوساطهم.

يرى البعض في هذا التغير تهاوناً وتنازلاً من قبل الإسلاميين عن مبادئهم، ويراه آخرون براغماتية من هذه التيارات الدينية ووسيلة تلجأ إليها مؤقتاً للوصول إلى أطياف أكبر من الشعب لتحقيق هدف الوصول إلى كرسي السلطة. بينما تنافح مجموعة ثالثة (من داخل التيار الإسلامي) عن فكرة استدراج الإسلاميين خطوة خطوة ومرحلة في إثر مرحلة، للوصول إلى الالتزام التام بسقف الدولة القــُطرية وترك مبادئ مشروعهم العالمي (أستاذية العالم، الخلافة، العالم الإسلامي ..الخ).

بيد أننا حين ندرس ظاهرة اجتماعية سنجد أنفسنا أمام مزيج متداخل من الأسباب الذاتية والخارجية، وهنا ستكون الأخيرة أثقل وأعمق أثراً في التغيير من المجموعة الأولى. لا شك أن عشرات السنين من مخالطة المجتمع والعمل في النقابات والاتحادات (ومؤخراً البرلمانات) قد صقلت تجربة الإسلاميين وعدلت من نظرتهم إلى كثير من الأمور، ولا جدال أن كثيراً من آراء الإسلاميين قد خضعت لإعادة نظر وتقييم منهم أنفسهم، لكن نظرة موضوعية إلى صيرورة الأحداث ستثبت أن أهم المتغيرات كان في العامل الخارجي: النظرة للإسلاميين وطريقة التعامل معهم.

لقد اتسم القرن الماضي بتهميش الإسلاميين وملاحقتهم وحظرهم، بل وتخوينهم وإخراجهم من السياق الوطني برمته، تارة بترويج إشاعات عن نشأتهم بل إنشائهم من قبل الغرب، وانتهاءً باتهامهم بالارتباط به من خلال السياسات والخطط والممارسات. لقد لاقى الإسلاميون في دولهم المختلفة أقسى أنواع الملاحقة والسجن والقتل ضمن حملات ممنهجة ومنظمة لشيطنتهم، نجحت في أحيان كثيرة في إيجاد نوع من المصداقية أدت إلى إيجاد ظهير شعبي لها.

هنا، يجد القانون الفيزيائي الشهير، الذي يقرر أن لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه، تطبيقاً له في الحياة الاجتماعية. حيث تؤكد دراسات علم الاجتماع أنه كلما زاد نوع من التطرف في مجتمع ما، كلما وجدت مجموعات منه الحل والخلاص في التطرف في الاتجاه المضاد له. إن انتشار الانفلات الأخلاقي من انحلال أو إباحية مثلاً في مجتمع من المجتمعات سوف ينتج بالضرورة ميلاً نحو المحافظة والتشدد في الحياة الاجتماعية، كما أن انتشار تيارات الإلحاد والشيوعية مثلاً سيكون أحد نتائجه بالقطع توسع تيارات التشدد الديني، وهذا ما كان.

يؤكد هذه النظرية عدة أمثلة في حياتنا الواقعية. فلو أخذنا مصر، مسقط رأس الكثير من الجماعات الإسلامية وكبرى الدول العربية دوراً وتأثيراً، لرأينا بوضوح أن العنف لم يكن من أبجديات الحركة الإسلامية فيها ابتداءً، بشقيها “الإخوان المسلمون” ومجموعات “السلفية التقليدية”. بل على العكس تماماً، فقد خرجت التيارات التي حملت السلاح من تحت عباءة الإخوان رافضة تعاملهم “السلمي” مع الدولة في ظل بطش وقمع نظام عبد الناصر.

من ناحية أخرى وفي سياق مشابه سنجد أن الإخوان، ككبرى حركات الإسلام السياسي وأكثرها انتشاراً وتغلغلاً في المجتمع، لم تحارب الثقافة أو الفن ولم تمنعهما، بل على العكس من ذلك فقد شجعت ذلك وانتهجته منذ بداياتها. ولن يكون مفاجئاً أن نذكر أن مؤسس الإخوان الإمام حسن البنا (استشهد عام 1949) كان قد أنشأ فرقة مسرحية عملت فيها مجموعة من كبار الفنانين المصريين على رأسهم الراحل عبدالمنعم دبولي.

إن الخطر الأكبر الذي قد يؤدي إلى زيادة التشدد أو اللجوء إلى العنف في أي مجتمع من المجتمعات، هو الإصرار على الظلم وسد سبل التدافع الفكري والمنافسة السياسية، لتحل محلها سياسات الملاحقة والقتل والشيطنة مرة أخرى. سياسات يرى البعض أن كثيراً من الحكام والمتحكمين بمجريات الأمور في غير دولة يلجؤون إليها قاصدين، لأن أفضل الحلول بالنسبة إليهم هو لجوء الشباب المعارض لهم إلى العنف وحمل السلاح، الأمر الذي يبرر لهم ما يقومون به من محاربة واجتثاث ومجازر. فهل يعي أولئك الحكام وأولئك المعارضون، على السواء، خطورة تلك السياسات المتبعة على مصير الشعوب والأوطان؟

 

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

قالت حماس

المقالة التالية

جماعة "كولن" بين الفكر والممارسة

المنشورات ذات الصلة