منذ سطوع نجم حزب العدالة والتنمية التركي، بدأ الحديث في العالم العربي خصوصاً عن التجربة التركية ومميزاتها وعن النموذج التركي الجديد في الحكم، وكيف نجح في تحييد الخصوم، وكسب الشارع والشرعية، ليتربع على عرش الحكم سنوات مديدة دون منافسة تذكر. وبينما كان القادة الأتراك يخوضون معاركهم السياسية والاقتصادية والقانونية باقتدار، كان الإعجاب بهم يزداد يوماً بعد يوم في شوارع العواصم العربية التي فقدت وافتقدت شيئاً مماثلاً تفخر به. ولربما كانت أهم ثلاثة عناوين في “التجربة التركية” هي التنمية الاقتصادية، والانفتاح على الآخر داخلياً وخارجياً، والتخلص من سيطرة العسكريين على الحياة السياسية.
ولئن كان الإنصاف يدعونا إلى الإقرار بما لهذه التجربة من نجاحات لا تخطؤها العين في مختلف المجالات، إلا أننا تحفظنا منذ البداية على مصطلح “النموذج التركي”، حين يقصد منه الرغبة في التقليد والنسخ. فكثير ممن لم يطلعوا على تفاصيل المشهد التركي وأعجبوا بالنتائج دون الإطلاع على المعطيات، كانوا يدعون إلى “استنساخ” التجربة ونقل النموذج.
وقد كان لمصر الحظ الأكبر من الاهتمام والمتابعة، باعتبارها قاطرة العالم العربي وربيعه الواعد، ولتشابه البلدين في الكثير من التفاصيل. الكثيرون طالبوا الإسلاميين (الإخوان تحديداً) بالاقتداء بحزب العدالة والتنمية لجهة نبذ الخطاب الحزبي والانغلاق على طريقة الراحل أربكان، وتبني سياسات أردوغان المنفتحة على الجميع. بل وصل الامر بالبعض إلى مطالبة شباب الإخوان بالانشقاق عن قيادتهم تشبهاً بقيادات العدالة والتنمية الشباب.
أكدنا في كل مجال ومحفل على خطأ هذا التفكير وسطحيته، إذ أن نجاح التجربة التركية كان مرهوناً بمناسبتها للحالة التركية، وبالتالي فإن إمكانية نجاحها بمنطق “القص والنسخ” لم تكن يوماً واردة.
اليوم، وبعد الانقلاب العسكري في مصر، ترتفع أصوات أخرى تطالب الإخوان والإسلاميين باتباع النموذج التركي، لكن هذه المرة ممثلاً في الراحل نجم الدين أربكان، الذي لم يكن ينزل بأنصاره إلى الشارع بعد أي انقلاب عسكري، بل كان يعمل على إنشاء حزب جديد، ويتابع العمل السياسي مرة أخرى.
وهنا، لا بد لنا من بعض النقاط والملحوظات، على هامش هذه الدعوات:
أولاً، المطالبة بأمور متناقضة (لفظ نهج الراحل أربكان ثم الاقتداء به) توحي بالانتقائية والسطحية في التناول.
ثانياً، المطالبة الحالية تأتي في أغلب الأحيان ممن لا يؤمنون بالتجربة التركية ولم يروا فيها يوماً إلا شراً مستطيراً يريد إعادة السيطرة على المنطقة. فكيف يطالبون اليوم باتباعها؟
ثالثاً، الاختلافات الكبيرة بين مصر وتركيا، تاريخاً وواقعاً، تجعل من الاقتداء بنهج المرحوم أربكان إزاء الانقلابات العسكرية خطأ فادحاً، فمثلاً:
- في تركيا هناك تقاليد ديمقراطية راسخة منذ 1876، بينما أجهضت التجربة الديمقراطية المصرية في مهدها، ولم يسمح لها بتلمس الطريق.
- رغم قيامهم بأربعة انقلابات عسكرية، لم يرغب العسكريون في تركيا يوماً بالحكم، فكانوا يسلمونه بعد كل انقلاب لسلطة مدنية ويمارسون وصاية عن بعد، بينما في مصر حكموا ويحكمون بشكل مباشر ولا يسمحون بحياة ديمقراطية وحكم مدني.
- في كل انقلاب عسكري تركي، كان يتم القبض على بضعة أشخاص وحرمان البعض الآخر من الحياة السياسية لخمس سنوات (وبعض الإعدامات أحياناً)، مما يتيح لمن بقي أن يمارس السياسة ويعود للمشهد أحياناً بقوة أكبر، لكننا نرى في مصر حرباً شعواء ضد كل رافضي الانقلاب توحي بمعادلة صفرية واضحة.
- كانت المعركة في تركيا دائماً حول الهوية، أما في مصر فهناك صراع على الهوية، لكنه قبل ذلك وبعده معركة أيضاً حول مفهوم الديمقراطية وتداول السلطة واختيار الشعب.
- نظر السياسيون الأتراك للانقلابات العسكرية كجزء من عملية ترسيخ الديمقراطية والكفاح السياسي، ولذلك كان همهم الحفاظ على كتلتهم الشعبية وأدائهم الحزبي ومواصلة الطريق، بينما نحن في مصر أمام مشهد ثوري ينقض بنيان نظام خربٍ هرم، في معركة معيارها نجاح الانقلاب أو فشله، سيرسم على إثره تاريخ مصر والمنطقة.
يحق لمصر وأهلها، بل يجب عليهم، أن يستفيدوا من كل تجربة ناجحة، خاصة تلك التي تتشابه مع تجربتهم في ظروف موضوعية كثيرة، لكننا يجب ألا ننسى أن الأشجار المثمرة هي تلك التي تنبت في مكانها الصحيح وظروفها المناسبة. إن التعامل مع التاريخ والتجارب السياسية بالاجتزاء والأهواء جرم بحق التاريخ وجريمة بحق الحاضر والمستقبل.