العدالة والتنمية ودروس السياسة الواقعية

ما بين 1999 حين طردت النائب مروة قاوقجي من مجلس الأمة التركي بسبب حجابها بلا سند من قانون أو ذنب اقترفته، و31.10.2013 حين دخلت أربع من النواب الحجبات نفس القاعة دون أزمة تذكر، قصة طويلة من التخطيط والعمل أنجزت ما لم يكن يتخيله أحد في تركيا، لعلي هنا أعرّج سريعاً على بعض فصولها ومعانيها، ولنقرأ معاً بعض ما اختفى أو أخفي ما بين السطور:

 

لم يكن في القانون التركي ولا النظام الداخلي للبرلمان يوماً ما يمنع الحجاب، بل مجرد تعسف العلمانيين في تفسير مادة “الزي” فيه، معتبرين أن الحجاب من “الرموز الدينية” التي يمكن أن تبث الكراهية وترسخ التمييز في المجتمع.

 

في 1999 كان موضوع الحجاب ساخناً، وممنوعاً في كل مكان، وأصعب مكان كان يمكن تحدي هذا التوجه فيه هو البرلمان، الذي يعتبره العلمانيون “قلعة وميراث” أتاتورك، ولذلك ربما كانت معركة مبكرة جداً بلا قوة ولا استعداد أن ترشح السيدة مروة قاوقجي نفسها وتصمم (ومن ورائها حزب الفضيلة) على دخول البرلمان بالحجاب.

 

منذ تسلمه الحكم في 2002، لم يكن في أولويات العدالة والتنمية موضوع الحجاب، ولا حتى الحريات بمسماها العام، بل التتنمية الاقتصادية والإصلاح الديمقراطي، وابتعد عن أي موضوع يمكن أن يسبب صداماً مع الجيش أو القضاء أو الطيف العلماني في البلد، وقدم في سبيل ذلك الكثير الكثير من التنازلات التي انتقد عليها.

 

سبق دخولَ السيدات الأربع قاعة البرلمان بحجابهن 11 عاماً من العمل والنجاح، كانت ظهيراً للحكومة وأمّنت سنداً جماهيرياً وحاضنة شعبية للكثير من خطواتها. كما سبقها العديد من الإصلاحات القانونية والتعديلات في الدستور.

 

أثار العدالة والتنمية موضوع الحجاب في نهاية فترة حكمه الثانية وبداية الفترة الثالثة فقط، وأثارها كقضية نقاش مجتمعي، وحددها في البداية فقط في الطالبات الجامعيات، واستطاع جر الأحزاب كافة (الأهم حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة) إلى الاعتراف بوقوع الظلم على الفتيات وحرمانهن من التعليم، بل وأدى ذلك إلى تنافس بعض الأحزاب في تبني مظلوميتهن.

 

رشح العدالة والتنمية في انتخابات عام 2011 سيدة واحدة محجبة، لم يكن لها أمل في الفوز، فقد رشحها في مقابل رئيس حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة في مسقط رأسه، واعتبرها البعض في حينها حركة “لبقة” منه لغريمه السياسي، بينما رأى فيها البعض “تمهيداً” للانتخابات الللاحقة. طبعاً مر الأمر بلا ضجة كبيرة لأن السيدة لم يكن لها أمل في الفوز.

 

تمّت خطوة السماح للطالبات بالحجاب في الجامعات بموافقة جميع الأحزاب، تلتها خطة إصلاح التعليم ونظام 4-4-4، ثم السماح بالمواد الدينية (القرآن والسيرة) كمواد اختيارية في المنهج. ثم كانت الحلقة قبل الأخيرة هي “حزمة الإصلاحات الديمقراطية” التي قدمها العدالة والتنمية بشيء من الذكاء والاحترافية.

 

تضمنت الحزمة السماح بالحجاب (ضمن إطار الحريات الشخصية) في المؤسسات الحكومية والعامة باستثناء القضاء والشرطة والجيش، وهذا يعني أن البرلمان كان مشمولاً في هذا التغيير. وهنا عبقرية التوقيت في طرح الحزمة، كما بدا لي حين فكرت في الأمر الآن بأثر رجعي.

 

كان يمكن أن تطرح الحزمة سابقاً (البعض انتقد تأخيرها)، أو لاحقاً بعد عيد الأضحى بقليل أو كثير. وكان يمكن أن تلبس السيدات الأربع حجابهن قبل موسم الحج باعتبار أن حزمة الإصلاحات سمحت بذلك. لكن التوقيت قبل العيد بأسبوع تقريباً منع إمكانية أي لبس للحجاب تحت قبل البرلمان مباشرة منعاً للاحتكاك، بينما جعل الأمر يبدو عادياً وفي سياق الحرية الشخصية حين عادت السيدات الأربع من الحج. ومما لا شك فيه أن الحزب كان يعرف أن أربع نواب من سيداته سيتوجهن للحج هذه السنة، ولا يصدق متابع جيد أن قرار الدخول للبرلمان وتوقيته كان قراراً شخصياً بحتاً لهن.

 

الجزء الآخر المتعلق بالتوقيت هو قرب الانتخابات البلدية، وخوف الكثير من الأحزاب من عواقب افتعال مشكلة مثل هذه، خاصة بعد أخذها طابع المطلب الشعبي كقضية رأي عام. ولذلك كان ملفتاً أن العدالة والتنمية ذكــّر الجميع بأن من منع مروة قاوقجي عام 1999 وطردها من البرلمان خسر الانتخابات اللاحقة ولم يدخله هو (حزب اليسار الديمقراطي وحزب الحركة القومية). كما كان لافتاً أن حزب الحركة القومية الذي شارك في حادثة الطرد عام 1999 كان من أبرز المدافعين هذه المرة عن حق المحجبات في دخول البرلمان. هنا وجد حزب المعارضة الأبرز نفسه وحيداً، فاضطر لعدم اتخاذ قرار جماعي موحد أو افتعال مشكلة.

 

رفع بعض قادة العدالة والتنمية سقف التحدي قبل الحادثة بأيام، كما قال رئيس مجلس الأمة جميل تشيشاك أن النظام الداخلي للمجلس لا يمنع لبس الحجاب، وأصر العدالة والتنمية أن تكون الجلسة عادية، فلم يدرها الرئيس بل نائبته كما كان مقرراً، ولم يحشد لها العدالة والتنمية بل أشاع شعور وانطباع أن الأمر عادي جداً، وأن من سيفتعل مشكلة هو من يريد جر البلاد إلى أزمة سياسية من “لا شيء”.

 

أخيراً، معركة البرلمان كانت الأصعب ولذلك كان يجب أن تؤخر، وأن يسبقها شعبية للحزب ومساندة من الشعب صنتعهما إنجازات الحكومة على مدى 11 عاماً، وكان يجب أن يسبقها تمهيد كثير وعمل ضخم وتدرج مدروس، وكان يجب أن تأتي في سياق طبيعي تحت عنوان الحريات الشخصية وليس المعارك الايديولوجية. وقد أبدع العدالة والتنمية في هذا. ويبقى لي ملحوظتان سريعتان:

 

الأولى، أن هذا الإنجاز ليس نتاج عبقرية اردوغان فقط كما يحب البعض أن يختزل الأمور ويبسطها، بل هو نتاج عمل فريق كبير ومتجانس على مدى سنوات، ويقال (وأوافق على هذا جداً) أن أبرز سمات اردوغان القيادية التي صنعت مجده هو إحسانه اختيار فريق عمله من المسؤولين والمساعدين.

 

الثانية، التدرج هو عبقرية التخطيط وحجره الأساس. فالإبداع أن تبتعد عن المعارك التي لا أمل لك بكسبها، وأن لا تـُستدرج لأي فعل أو ردة فعل لن تخدم أهدافك النهائية، وأن تقرر أنت متى وأين وكيف تدير مواجهاتك، و هذا من أهم أسباب الفوز أو النصر. مع تأكيدي للمرة الألف أن التجربة التركية منتج تركي خالص، غير قابل للاستنساخ، بل للقراءة والتمعن والدراسة والاستفادة.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

تركيا من الاستقرار إلى الاستنفار

المقالة التالية

الشعوب العربية والبحث عن بطل

المنشورات ذات الصلة