هذا ما ذهب إليه بعض المتشائمين من المتحمسين للربيع العربي والنشطاء الشباب الحريصين على بقاء جذوته. وباعتبار أن تونس كانت آخر قلاع هذا الربيع، فقد قاد هذا التفكير البعض إلى نتيجة تقبل التعازي بالثورات العربية. لكن نظرة فاحصة على النتائج شبه الرسمية التي أعلنت تظهر عدم دقة هذا التصور – على الأقل في المرحلة الحالية – للاعتبارات العامة والعناوين العريضة التالية:
أولاً، أن انتصاراً ساحقاً لحزب نداء تونس، ممثلاً عن فلول نظام بن علي، ليس مجزوماً به، إذ هناك الكثير مما قد يقال في طريقة وفرص تشكيل الحكومة ثم إقرارها ثم ما يمكنها القيام به.
ثانياً، أن هزيمة نكراء بحق حركة النهضة أيضاً ما زالت غير مجزوم بها، إذ هناك الكثير مما يمكن الدفع به حول التحالفات السياسية والانتخابية تحت قبة البرلمان وفي الانتخابات الرئاسية وغيرها.
ثالثاً، أن هزيمة النهضة – إن سلمنا بها – لا تعني بالضرورة نهاية الثورة التونسية رغم مركزية الحركة فيها، لعدة اعتبارات أولها عدم اقتصار القوى الثورية عليها وليس آخرها الخيارات لا محدودة العدد التي تملكها القوى الثورية في ضوء معطيات الحاضر.
رابعاً، أن انتصار نظام بن علي في تونس – إن قبلنا هذه الفرضية – لا يعني انتهاء العربي العربي بهزيمة مذلة، فذلك لن يعدو كونه نهاية الجولة الأولى أو الموجة الأولى – كما يحب مؤرخو الثورات أن يسموها – من الربيع العربي، ولذلك الحديث مجال آخر.
حسناً، إن كنا ننفي احتضار الثورة أو انطفاء جذوتها، فلسنا نقلل من نتيجة الانتخابات الأخيرة، فالفائز فيها هو الحزب المحسوب على الرئيس الهارب ابن علي، بمعنى أن الشعب ثار على بن علي ثم عاد واختار نظامنه بعد أربع سنوات (إن حاولنا تبسيط المشهد واختزاله)، وهذه من المفارقات المهمة، ليس على سبيل التحليل والتندر فقط، ولكن أيضاً من باب استشراف مستقبل تونس الثورة.
ولئن بدت قيادات “نداء تونس” حريصة على بث رسائل التطمين وعدم الإقصاء، لكننا أيضاً لا يجب أن نغفل خلفية الحزب وتاريخ رجاله، وإمكانية السعي نحو الانتقام ورد الصاع صاعات متعددة، أو على الأقل إدارة دفة تونس 180 درجة بعكس اتجاه ثورتها، إذ هي في النهاية حلقة جديدة من صراع القوى التي أفرزها الربيع العربي مع القوى والنظم التي قام ضدها، مشفوعة بدعم منظومة إقليمية أعلنت الحرب على الربيع و”ثماره”.
هكذا يبدو السيناريو التونسي محض نسخة أبطأ سيراً من أخيه المصري، انقلاب بدعم شعبي يعيد الساعة إلى ما قبل الصفر ولكن بظروف وشروط جديدة استفادت من تجربة السنين الأخيرة، فهل الساحة التونسية مهيئة فعلاً – وبدعم عربي إقليمي – لانقلاب خشن أو ناعم مصحوب بحالة إقصاء واجتثاث للإسلاميين هناك على غرار الجارة مصر؟؟!.
لا يبدو السيناريو متوقعاً ولا راجحاً في ميزان الممكن في المرحلة الحالية على الأقل، ليس فقط لأن حزب نداء تونس هو الذي سيحكم وبالتالي فلن ينقلب على نفسه كما قد يقال، ولكن لاختلافات جوهرية عن الحالة المصرية ونقاط سجلتها حركة النهضة من خلال الانتخابات ونتائجها – قاصدة أم غير قاصدة – منها:
أولاً، انتقال السلطة عبر الانتخابات وليس عن طريق الانقلاب أو الغضب الشعبي.
ثانياً، انكفاء النهضة عن السلطة سابقاً طواعية والآن عبر خسارة الانتخابات، ونقضها بالتجربة العملية ادعاء استغلال الإسلاميين للانتخابات لمرة واحدة فقط.
ثالثاً، غياب الاستقطاب الحاد ودعوات المواجهة والاجتثاث التي كانت سائدة في مصر قبيل الانقلاب عن تونس، إضافة إلى عدم وجود أي مشكلة قانونية أو شبه قانونية للنهضة.
رابعاً، سلاسة قبول النهضة بفوز الخصم وتهنئته وضمان انتقال سلمي للسلطة.
خامساً، تخفف النهضة من أعباء الحكم ومشاكل المواطن اليومية، مما سيبعدها عن بؤرة الاستهداف السياسي والإعلامي ولو قليلاً ومؤقتاً.
سادساً، ضمانة الدستور الذي قدمت فيه النهضة تنازلات كبيرة بشهادة أغلبية القوى السياسية.
سابعاً، صعوبة تفرد نداء تونس بالحكم واضطراره إلى حكومة ائتلافية (إن شكلها هو)، مما سيقيد يده نوعاً ما إن أراد التغول على القوى السياسية المعارضة والمناهضة له، سيما النهضة.
ثامناً، أن التراجع كان من نصيب حلفاء النهضة في الترويكا التونسية أكثر من تراجعها هي، إذ ما زالت محتفظة بمعظم قاعدتها الشعبية.
تاسعاً، فرصة الانتخابات الرئاسية القادمة التي يمكن أن توازن إلى حد ما فوز أنصار بن علي، خاصة في حال تم دعم الرئيس الحالي المنصف المرزوقي وفاز.
عاشراً، عدم إقرار قيادات وأحزاب المرحلة الحالية سابقاً عن قانون العزل السياسي في حق رجالات النظام السابق يكبل أيدي الحكومة القادمة “أخلاقياً” من حظر أو محاولة تحجيم المعارضة وعلى رأسها النهضة.
أحد عشر، إمكانية تشكيل النهضة لمعارضة قوية، بل جبهة معارضة متينة، من خلال تحالفات تنسجها مع الثوى الثورية الأخرى، قد تتيح لها إمكانية الإمساك بزمام المبادرة في مواجهة حكومة ائتلافية غير متمكنة.
اللافت للنظر أن الكثيرين ممن استدلوا بتراجع النهضة في نتائج الانتخابات على فشل مسارها هم من هاجموا هذا المسار ابتداءً وهنا تكمن غرابة الاستدلال، لأن المفروض أن الموقف غير مرتبط أساساً بنتيجة الانتخابات ونسبة التصويت. نعم، لقد أخطأت الترويكا التونسية – وفي مقدمتها النهضة – برأينا حين لم تشدد الخناق على الطرابلسيين أبناء ابن علي بالعزل السياسي والملاحقات القانونية، والحصار الاقتصادي، والتشريعات الثورية، إذ لا يمكن تصور تكافؤ المنافسة بين قوى غضة أفرزتها رياح التغيير وبين قوى متسلطة عبر عشرات السنين لها كل الإمكانات المادية والإعلامية والدعم الخارجي والإقليمي، في مرحلة انتقالية خصبة بالمشاكل والمطبات التلقائية والمفتعلة.
بهذا المعنى، قد تكون تونس فعلاً تسير على خطى مصر ببطء بتنكبها طريق الثورة وتركيزها على خطوات الإصلاح الهادئ المتدرج، رغم أن النهضة ومن معها من القوى الثورية – إسلاميين وغير إسلاميين – قد أظهروا حتى الآن حنكة ونضجاً في التعامل مع الكثير من الأزمات ونجحوا في إحباط الكثير من الخطط من خلال تجنب المواجهة المباشرة والكسب بالنقاط. إذ لا يمكن ضمان التزام الحكومة القادمة معروفة التوجهات بقوانين اللعبة الديمقراطية (أسوة بنظيراتها في الدول العربية الأخرى)، خصوصاً بعد أن زهدت قوى الثورة بتطهير المؤسسات المختلفة على مدى السنوات السابقة إلا ما ندر، وهنا لا يمكن التعويل المطلق على موقف الجيش التونسي إبان الثورة على ابن علي، فضلاً عن أن انقلاباً “أبيض” قد لا يحتاج لتدخل الجيش أصلاً ويكتفي بإجراءات مدروسة منتظمة ومتعاقبة تؤدي إلى نفس الغرض، وهو تطويق الثورة عبر إفشال وإقصاء قواها على مدى زمني طويل وبشكل “قانوني”.
في المحصلة، ينبغي التنبه إلى أن الثورة عملية تغييرية طويلة الأمد وليست معركة بالضربة القاضية، وما زال في فصول الثورة التونسية الكثير. وقد يكفي قواها في المرحلة الحالية ترسيخ مبدأ تداول السلطة وقبول حكم صندوق الانتخاب الذي يمكن قلب نتائجه في الاستحقاق الرئاسي القادم، وأيضاً في الانتخابات البرلمانية القادمة بعد سنوات قليلة فقط، من خلال عمل معارض قوي، منظم ومدعم بإعلام ناضج مركز وواع. اللهم إلا أن القوى المناهضة للتغيير ليست مأمونة الجانب، وبالتالي يبقى الزمن وحده بما سيضم من إنجازات وتدافع هو الشاهد الوحيد والحكم الأوحد على الحالة التونسية، آخر قلاع الربيع العربي ومرساته الراسخة حتى الآن.