في الذكرى الـ27 للانتفاضة الأولى التي شهدت انطلاقتها، وبعد أكثر من خمسة أشهر من حرب “حجارة السجيل” التي قادتها، لا تبدو حركة حماس اليوم بأحسن حال بل تتقاذفها عدة مآزق على مستويات عدة.
ففي الملف الداخلي وضعت الحركة كل بيضها في سلة المصالحة الداخلية، سيما وأنها استشعرت أن كل تأخير إضافي سيحمل عبئاً جديداً ودفعاً نحو تنازلات أكبر. قدمت حماس في جلسات المصالحة كل ما يمكن تقديمه من مرونة لم تخل من إشارات الضعف، بطريقة أغضبت قطاعات مهمة من أنصارها، رأوا أن عدم إبرام المصالحة خلال حكم الثورة المصرية وإبرامها في عهد الانقلاب قد أفقد حركتهم أوراقَ قوة مهمة وهوامش لا يمكن إهمالها من المناورة.
لقد مضت حماس نحو المصالحة تحت ضغط عدة عوامل، على رأسها أزمتها الاقتصادية والأوضاع الإقليمية المستجدة إضافة إلى اطمئنانها على قوتها العسكرية في قطاع غزة. لكن يبدو أن الحركة لم تحسب خط الرجعة او “الخطة باء” في حساباتها، وأحسنت الظن كثيراً في شركائها أو خصومها في عملية المصالحة، وراهنت على مرونتها وضغط الشارع الفلسطيني على قيادة السلطة، حتى مرت الأشهر الستة الممنوحة لحكومة الوفاق الوطني دون تسلمها مهامها رسمياً في القطاع، ودون حل مشكلة الرواتب، ودون البدء الفعلي بملف إعادة الإعمار.
أما العلاقة مع مصر فحدث ولا حرج، ذلك أن نظام الانقلاب الذي تخطى كل الخطوط الحمراء مع شعبه، لم يراعها بالطبع مع ما يقرب من مليوني فلسطيني يعيشون في القطاع. أدت سياسة العقاب الجماعي منذ اليوم الأول للانقلاب إلى قصف وهدم الأنفاق، وغلق معبر رفح إلا ما رحم ربي من الأيام بشروط مغلظة، وإقامة منطقة عازلة على الحدود المصرية – الفلسطينية. في هذا الإطار يبدو أن الحركة ومن ورائها سكان القطاع، قد فقدوا الأمل في إمكانية تحريك الملف مع السلطات المصرية، فلم نعد نشهد حراكاً حقيقياً نحو فتح معبر رفح الحدودي، فلا مطالبات أفادت ولا مناشدات سُمعت ولا قنوات تواصل ليــّـنت الموقف المصري ولا حتى شهدنا مظاهرات جادة وغاضبة من أهل القطاع لكسر الحصار المفروض عليهم كما حصل أيام مبارك.
أما استراتيجياً فقد ضيعت الحركة أو ضُيّع عليها الكثير وتبدو اليوم وكأنها وحدها في بحر المنطقة اللجي بلا سند أو معين. إلى ما قبل الثورة السورية كانت حماس محسوبة على محور “الممانعة” الذي تقوده إيران، وهي – وإن لم تكن حليفاً بالمعنى السياسي والاستراتيجي المعروف – كانت تحظى بدعم خاص على كل الصعد، السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية. بعد قرارها بالخروج من دمشق، ساهمت بعض التصريحات الحادة من بعض قادتها نحو النظام السوري في رفع سقف “العقوبة” الإيرانية عليها، فكان الجفاء السياسي والتقليص المالي سمتين لافتتين في العلاقة معها.
من ناحية أخرى، لم تحظ حماس قط منذ قرارها المصيري هذا بحليف آخر يأخذ مكان طهران، فلا قطر ولا تركيا تستطيعان – بافتراض وجود النية ابتداءً – تقديم ذات الدعم الذي كانت تحصل عليه حماس من إيران وسوريا، سيما في الجانب العسكري. على العكس تماماً، بدا وكأن الرياح التي هبت على المنطقة وعكست مسار الربيع العربي ونكست رايات ثوراته قد ثقبت أشرعة الحركة أيضاً. إذ لا يجب أن يفوتنا التقاط إشارات مهمة في هذا السياق مثل المصالحة الخليجية واشتراطاتها على قطر، أو اختفاء الزيارات – على الأقل العلنية – لقادة حماس إلى أنقرة حتى بعد الانتخابات الرئاسية التركية لتهنئة اردوغان. وبغض النظر هل كان السبب فتور الحلفاء الجدد أم نصائحهم، فقد تحولت دفة الحركة مجدداً نحو طهران في محاولة لا يمكن الجزم بالسقف أو المدى الذي يمكن أن تصل إليه في ترميم العلاقات.
أخيراً، فقد اختلفت الصورة الانطباعية عن الحركة اليوم عنها في أيام الحرب الساخنة التي شهدت إنجازات مهمة لذراعها العسكري كتائب القسام. في ذلك الوقت بدا وكأن الحركة واثقة بما في أيديها من أوراق القوة العسكرية والميدانية والأسرى من الجنود الصهاينة، فتوزعت تصريحات بعض قادتها بين التلميح إلى إمكانية التفاوض مع دولة الاحتلال، إلى بناء المطار والميناء، إلى إعادة الإعمار، إلى معركة التحرير الأخيرة. هذه الثقة المفرطة بدا أن رصيدها السياسي لم يكن متطابقاً مع التوقعات، الأمر الذي ظهرت حماس معه وكأنها قفزت في الهواء دون حساب المآلات ودون التبصر والتعمق في الوضع الإقليمي الجديد بعد الانقلاب في مصر، سيما وأن كثيراً من التحليلات ذهبت إلى حماس كانت معنية ببدء الحرب والتبكير بموعدها.
هكذا، يسود شعور بأن الحركة قد بالغت في تقييم عناصر قوتها أو عناصر قوة خصومها، وفي قراءة المشهد العربي والإقليمي بطريقة سليمة، في ظل عدة تصريحات إسرائيلية وأمريكية عن تشكل تحالف إقليمي خلال الحرب يدعم دولة الاحتلال في مواجهتها بعد وصمها بالإرهاب. ويبدو أنه رغم بسالة المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني، إلا أن سيناريو الحرب الأخيرة لم يبتعد كثيراً عن سيناريو حرب 2006 في لبنان، الذي تشكل إجمالاً من شقين: الأول تدمر البنية التحتية ومضاعفة الخسائر البشرية والمادية لتفكر المقاومة ألف مرة قبل المشاركة في حرب أخرى لاحقة، والثاني حصار اقتصادي وسياسي وتأخير للإعمار والإغاثة لتأليب الحاضنة الشعبية ضدها. وحتى الآن، يبدو أن هذا ما تحقق وما خطط له في القطاع، دون أن تملك حماس الكثير من البدائل إزاءه، اللهم إلا ابتدار حرب أخرى لتحريك المياه الراكدة، وهو أمر لا يمكن الجزم بنتائجه ولا بقدرة سكان القطاع على تحمله والاتفاف حوله والمشاركة به.
من ناحية أخرى، لم تستفد حماس كثيراً من تركها المعلن للحكومة وقبولها بحكومة الوفاق الوطني على علاتها للتخلص تماماً من مسؤولية القطاع وأهله. ذلك أن الأمر الواقع يفرض نفسه في ظل عزوف الحكومة الجديدة عن مباشرة عملها في القطاع دون الحصول على تنازلات جديدة منها، وفي ظل السيطرة الأمنية للحركة على القطاع الأمر الذي يحملها مسؤولية العديد من التطورات، مثلما حدث في قضية التفجيرات التي استهدفت منازل عدد من قيادات حركة فتح. إضافة إلى تحميل الكثيرين مسؤولية تردي الأوضاع وتباطئ الحكومة لحماس، باعتبار أنها هي من سلمتهم زمام القرار دون ضمانات أكيدة.
وفي ظل عجز السياسة عن قطف ثمار العمل العسكري في الحرب الأخيرة – حتى الآن على الأقل – واستمرار الحصار داخلياً وخارجياً، وتوقف قطار المصالحة في محطته الأولى، وخسارة حماس لكثير من أوراقها الإقليمية، لا تبدو الأخيرة بعيدة عن السجال الداخلي. ذلك أن حالات الانتصار والتقدم غالباً ما تساعد على تجاوز العديد من الأزمات وغض الطرف عن كثير من الأخطاء، بينما يؤدي الجمود أو الفشل أو العجز إلى فتح الملفات المغلقة وإثارة الأسئلة والاستفهامات والمحاسبات. لذا، تبدو حماس اليوم في وضع لا تحسد عليه، إذ هي مطالبة من قبل أبنائها قبل خصومها بالقيام بمراجعات مهمة حول عدد من القرارات التي اتخذتها خلال الفترة السابقة، مثل الخروج من سوريا أو التخلي عن الحكومة أو المشاركة في الحرب الأخيرة، بينما يبقى التحدي الأكبر هو وضع استراتيجية جديدة لها تستطيع استيعاب وهضم المتغيرات الجديدة لاجتراح الآليات المناسبة التي تمكنها من التعامل مع هذا الواقع الشائك والمركب داخلياً وخارجياً.