هل عمقت القمة الخليجية من عزلة تركيا؟

بعد حوالي أربع سنوات من بدئها، لا يبدو أن الرمال التي حركتها الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي في المنطقة قد أفضت إلى استقرار ولا يبدو أنها ماضية نحوه، ليس قبل موجته الثانية التي يشعر الجميع بحتمية حصولها ويختلفون حول توقيتها وماهية وكيفية انطلاق شرارة بدئها.

لقد هدمت الثورات الحلفين التقليديين في المنطقة، الاعتدال والممانعة، كلاً على حدة، ثم استطاعت الثورة المضادة التي قادتها المنظومة الإقليمية إعادة تشكيل حلف الاعتدال بطريقة ملفتة للأنظار، بحيث أصبحت المنطقة محضناً لثلاثة محاور يمكن بالكاد تلمس الحدود الفاصلة بينها: محور الاعتدال القديم المتجدد الدائر في فلك المشروع الأمريكي، ومحور إيران بعد انسلاخ حماس (وبدرجة أقل الجهاد الإسلامي) منه وضم أذرع جديدة إليه واصطباغه بصبغة طائفية فاقعة، ومحور قوى الربيع العربي وفي مقدمتهم الإسلاميين مع تركيا وقطر. ولئن كان مصطلح “حلف” فضفاضاً على توصيف الحالة الثالثة الأقرب إلى التعاون أو التنسيق أو “الدعم”، إلا أنها حملت في طياتها بذور تحالف كان يمكن العمل على ترسيخه وتقويته، لكن حال دون ذلك أسباب كثيرة أبعد من هدف هذا المقال.

لقد أصبح مفروغاً منه أن الموجة الأولى من ثورات العالم العربي قد أخفقت في تحقيق أهدافها، وأن حلفاءها لم يستطيعوا منع هزيمتها، بل لم يستطعوا أن يدرؤوا عن أنفسهم الضغط ثم دفع الأثمان. لقد توقعنا في مقال سابق أن يفرض التراجع نفسه على كل من قطر وتركيا، وأن قطر ستكون السباقة لذلك، فهي تفتقد إلى مقومات الصمود والمناورة طويلة الأمد، فضلاً عن أن الصراع بالنسبة لها ليس أيديولوجياً ولا – بالتالي – صفرياً. وبناءً على هذه الرؤية كان التراجع القطري الأول بعد اتفاق الرياض بالطلب من عدد من قيادات الإخوان المسلمين مغادرة أراضيها، وبناءً عليها أيضاً كانت قرارات قمة دول مجلس التعاون الخليجي مؤخراً.

أما تركيا، فتملك رصيداً من عوامل القوة يعطيها هامشاً أكبر من الصمود والمناورة، فهي قوة إقليمية كبيرة اقتصادياً وسياسياً، وهي منطقة مرور لخطوط النفط، وتملك قوة ناعمة لا يستهان بها في البلقان والقوقاز والشرق الأوسط، وهي صاحبة ثاني أقوى جيش بين دول الناتو، وتلعب دوراً محورياً – حتى الآن – في “الحرب على الإرهاب” في المنطقة تحت مظلة التحالف الدولي المتشكل حديثاً.

ورغم هذه العوامل التي تعضد الموقف التركي، لكن الأخيرة عانت مؤخراً من حلقتي عزلة، بعد تعرض حملتيها للانفتاح شرقاً وغرباً لضربات قوية. لقد انفتحت أنقرة في عهد العدالة والتنمية على الغرب سياسياً وعلى العالم العربي اقتصادياً وثقافياً، بيد أن السنوات الأخيرة حملت تغيراً في الموقف الغربي من “النموذج” التركي، كما أغلقت بوابة دمشق التي ولجت من خلالها إلى العالم العربي. بكل الأحوال، لم يكن ممكناً للدور التركي الذي بني على نظرية “صفر مشاكل” أن يستمر بنفس الطريقة والأداء والفعالية حين تحولت المنطقة إلى “صفر هدوء”، ولا كان يمكن لأنقرة أن تكون سعيدة بكل هذه التوترات في المنطقة وهي التي بنت تجربتها ونهضتها على عامل الاستقرار في الداخل والجوار.

كانت رياح الربيع العربي ودعم تركيا له، إضافة إلى مواقف سابقة لها خاصة في القضية الفلسطينية، علامة على استقلالية مستحدثة في السياسة الخارجية التركية لم تعجب الحلفاء في الغرب ولا الجيران في المنطقة، فبدأت محاولات عزل تركيا من الطرفين. فهل كانت القمة الخليجية الأخيرة الحلقة الثالثة في عزل تركيا، بانتزاع حليفها القطري منها؟

كثير من الشواهد توحي بأن القمة الأخيرة لم تكن عادية. بدءاً من سحب السفراء الثلاثة من قطر قبلها بشهور، مروراً باتفاق الرياض الذي هدأ الأمور بعد التراجع القطري التكتيكي، وانتهاءً بالاجتماع نفسه، والذي كان مستوى المشاركة به موحياً بانتفاء الخلافات، ثم جاء التركيز السياسي والإعلامي على ملف العلاقة بين قطر ومصر بعد الانقلاب والدعوة لدعم مصر، بل السيسي بالاسم. إذن، كانت هذه القمة الأقصر في تاريخ قمم دول مجلس التعاون (دامت ساعتين فقط) تستهدف إذابة الجليد بين الدوحة والقاهرة، بما يعني أن قطر ستكون مطالبة الآن بخطوات معينة تبلور قرارات قمتها على الأرض.

فهل سنشهد زيارة قطرية قريباً إلى القاهرة؟ أم دعماً مالياً واضحاً على شكل قرض أو وديعة؟ أم سيكون هناك تغير ملحوظ في سياسة قناة الجزيرة التحريرية؟ أم سيكون هناك تضييق إضافي على الإخوان المقيمين في قطر أو الزائرين لها؟ أم سيكون هذا كله؟ أم لا شيء منه؟ أسئلة سيكون الوقت وحده كفيلاً بالإجابة عليها، لكن ما يمكن الجزم به هو أن موقف قطر أضعف بكثير الآن مما كان عليه سابقاً، وأنها قررت الانحناء للعاصفة، وأنها ستلجأ – راغبة أو مضطرة – لخطوات تهدئ من غضب الرياض وأبو ظبي حتى لا ينفرط عقد المجلس وتتجدد الضغوط.

وبناءً عليه سيكون السؤال الأهم من الإجراءات متعلقاً بالمآلات، مآلات العلاقة مع معارضي الانقلاب في مصر وحركة حماس والجار التركي، ومآل التحالف الوليد بين كل هذه المكونات، وهو ما ستجليه تطورات الأحداث في المستقبل القريب

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

في ذكرى انطلاقتها، مآزق حماس المتعددة والمعقدة

المقالة التالية

تعالوا نحل "الإخوان" ولكن أي "إخوان" منهم؟

المنشورات ذات الصلة