استيقظت تركيا قبل أيام على حملة اعتقالات شملت عشرات الأشخاص في 16 محافظة تركية، في إطار ما تسميه الحكومة “الحرب على الدولة الموازية”. وكان من ضمن المعتقلين بعض المسؤولين السابقين في أجهزة الأمن والشرطة في مقدمتهم رئيس شعبة الاستخبارات السابق، إضافة للعديد من رجال الشرطة والأمن العاديين.
بعد أخذ إفاداتهم، تم إطلاق سراح البعض، بينما تم التحفظ على 66 شخصاً منهم وحولوا للمحكمة، لتتم مقاضاتهم في قضية “التنظيم الموازي”، وقد وجهت لهم سبع تهم، منها التجسس، والتنصت غير القانوني، وخرق سرية المعلومات، والحصول على معلومات تتعلق بأمن الدولة، وصولاً إلى “محاولة إسقاط حكومة الجمهورية التركية أو إعاقة عملها بشكل كلي أو جزئي باستعمال القوة والعنف”.
التهم الموجهة للمتحفظ عليهم، إضافة إلى عددهم الكبير، واستمرار الاعتقالات يوماً بعد يوم، يؤكد جدية القضية وخطورتها، ويشير إلى إصرار الحكومة التركية على حسم الصراع مع ما تسميه التنظيم الموازي في الدولة، خاصة أن بعض التفاصيل في هذه القضية قد تبدو مرعبة، ومنها على سبيل المثال ما أعلنه وزير العلم والصناعة والتكنولوجيا فكري إيشيق من أن 80 من أصل 164 هاتفاً آمناً (مشفراً) يستعملها كبار رجال الدولة من سياسيين ورجال جيش وأمن واستخبارات قد تم التنصت عليها خلال السنوات الفائتة.
الصحافي الذي اشتهر بالتسريبات المتعلقة بهذه القضية سليمان أوز إيشيق كتب في موقعه الإخباري “إنترنت خبر” قبل أيام مقالين يوضحان سبب إصرار الحكومة التركية وخاصة رئيسها اردوغان على المضي في هذه الحرب بلا هوادة ولا إبطاء، حين شرح بعض كواليس أهم محطتين في الصراع بين التنظيم الموازي والحكومة التركية.
الحادث الأول هو استدعاء رئيس الاستخبارات حاقان فيدان للتحقيق معه بتهمة التخابر أو التواصل مع حزب إرهابي (قد تصل لتهمة الخيانة العظمى) خلال مباحثاته مع حزب العمال الكردستاني في إطار عملية السلام لحل القضية الكردية. ويروي أوز إيشيق أن هذا الاستدعاء أتى في اليوم الذي كان من المفترض أن يخضع فيه اردوغان لعملية جراحية في السابع من شباط/فبراير 2012، وأن الخطة كانت تقضي باعتقال فيدان ثم اردوغان الذي كان سيستيقظ بعد العملية ليجد نفسه على سريره في الأصفاد بنفس التهمة، تماماً كما حصل مع رئيس الوزراء الأسبق المنقلب عليه عدنان مندريس. لكن اردوغان – وفق رواية الصحافي – أمر فيدان أن لا يسلم نفسه وتم إرسال فرق خاصة لحماية منزله المحاصر برجال الشرطة، قبل أن تصدر الحكومة قانوناً أقره الرئيس غل يقضي بأن التحقيق مع رئيس الاستخبارات يحتاج إلى موافقة رئيس الحكومة، لما يمثله موقعه من أهمية وما يملكه من معلومات حساسة.
أما الحادثة الأخرى فهي حملة ادعاءات الفساد والرشى والتي طالت أربع وزراء في الحكومة، حيث يدعي الصحافي المعروف أن الحملة كان مقصوداً بها اردوغان نفسه (ويروي ذلك على لسان الأخير)، حيث كان من المفترض التحقيق معهم ليقولوا – أو ليعلن أنهم قالوا – أنهم كانوا ينفذون تعليمات اردوغان (وقد قالها الوزير بيرقدار فعلاً قبل أن يعتذر عنها لاحقاً)، كما كان من المخطط اعتقال بلال اردوغان بنفس التهم، ليتم بعدها القبض على والده، وبذلك ينتهي مشوار العدالة والتنمية في تركيا، كما تم الانقلاب على مندريس، وكما تم تسميم أوزال من قبل.
ورغم أن أحداً لا يستطيع تأكيد أو نفي هذه الادعاءات من قبل أوز إيشيق، لكن ضراوة الحملة، وتصريحات اردوغان، والتسريبات حول قرب مغادرة كولن للولايات المتحدة بطلب من الحكومة التركية، كل ذلك يشير إلى حرب صفرية تحاول الحكومة فيها أن تجتث التنظيم الموازي تماماً. لكن، هل هذه هي الصورة الكاملة، أو الرواية الوحيدة للأحداث؟ وهل القضاء على الدولة الموازية بهذه السهولة؟
من جهة، تظهر هاتان القضيتان مدى تجذر هذا التنظيم في الدولة، وما إمكاناته، في الترتيب لحملات بهذه الخطورة تطال أكبر الشخصيات في الدولة، بسرية تامة، وكيف يستطيع التنصت لسنوات على كل المناصب الحساسة، وكيف استطاع تنفيذ الاعتقالات والتحقيقات ضمن حملة الفساد وكاد ينجح بها ويسقط الحكومة لولا الإجراءات الاستثنائية التي قام بها اردوغان في الجهاز القضائي.
ومن جهة أخرى ما زال السلك القضائي يقاوم الحكومة في كثير من القضايا، فحتى الآن لم يحاكم أحد في قضية مصادرة شاحنة الاستخبارات التركية التي هزت الرأي العام التركي، وحتى الآن يتم الإفراج عن أغلب رجال الشرطة الذين تعتقلهم أجهزة الأمن للتحقيق معهم، مما يوضح مدى قوة التنظيم الموازي في القضاء، وعدم سيطرة الحكومة على الأوضاع فيه.
أيضاً، لا يعرف أحد مدى تغلغل هذا التنظيم في القوات المسلحة التركية بشكل دقيق، حيث انصب كل جهد الحكومة على جهازي الأمن والشرطة وعلى السلك القضائي. لكن الإجراءات المتبعة في القضاء لم تصل لمستوى الحل الجذري، ولم تتعد حالة “خلط الأوراق” وبلبلة التنظيم الموازي حتى لا يستكمل خطته، حيث كان معظمها عبارة عن تغيير مكان العمل أو المنصب الوظيفي لمئات المحققين والقضاة.
ولذلك، يشير الكاتب جيم كوتشوك في مقالة له في صحيفة يني شفق المقربة من الحزب الحاكم إلى أن جماعة كولن (التي تتهم بأنها وراء التنظيم الموازي) لم تتأثر كثيراً بهذه الإجراءات، بل تعمل على قدم وساق للاستعداد لانتخابات الهيئة العليا للقضاة والمدعين العامين في أيلول/سبتمبر المقبل.
ويرى كوتشوك أن الجماعة تملك على الأقل ربع أعضاء هذه الهيئة ويمكنها التأثير على نسبة كبيرة من الأعضاء، وأن الإجراءات الحكومية أتت متسرعة وغير محسوبة وأن وزارة العدل تعاملت بتهاون شديد، مما سيؤدي إلى سيطرة الجماعة تماماً على هذه الهيئة في الانتخابات المقبلة بينما الكل منشغل في الانتخابات الرئاسية شبه محسومة النتائج.
كوتشوك وغيره من الصحافيين، ومنهم سفيلاي يوكسالير، يرون أن الجماعة ستعود بقوة إلى الواجهة من خلال هذه الانتخابات، ويحذرون من خطورة الأمر، حيث يقول كوتشوك أن كواليس الجماعة يتردد فيها كلام مثل “سنعود، لنستكمل ونغلق كل الملفات التي لم نستطع إكمالها”، وهو ما يشمل العديد من القضايا وعلى رأسها حملتا 17 و25 من كانون أول/ديسمبر 2013 المختصتان باتهامات الفساد، الأمر الذي قد يعني إمكانية حصول “انقلاب قضائي” على الحكومة بعد هذه الانتخابات.
هكذا تبدو تركيا في المستقبل القريب جداً أمام استحقاقين، أحدهما الانتخابات الرئاسية في آب/أغسطس والتي يتوقع أن يفوز بها اردوغان ليسرع ويعمق الحرب ضد الدولة الموازية كما يردد في كل حديث له، والثاني انتخابات الهيئة العليا للقضاة والمدعين العامين في أيلول/سبتمبر والتي يتوقع أن تفوز بها دوائر جماعة كولن لتستلم المبادرة وتحاول استكمال ما بدأته قبل أشهر.
السيناريوهات المحتملة كثيرة، والتطورات مفتوحة على عدة احتمالات، ولا يمكن الجزم بشيء، اللهم إلا أن تركيا ستكون أمام صيف ساخن ومتسارع الأحداث.