تنظم تركيا في العاشر من الشهر القادم انتخاباتها الرئاسية التي تحظى باهتمام كبير، أكبر من أي انتخابات رئاسية سابقة، ذلك أن الشعب هو الذي سينتخب الرئيس مباشرة للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية، إضافة إلى جو التوتر والاستقطاب السياسي المسيطر على تركيا منذ أحداث جزي بارك نهاية أيار/مايو 2013.
ولانتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب دلالة مهمة جداً، ذلك أنه – عكس كل سابقيه – سيمتلك شرعية شعبية انتخابية، وربما يحصل على نسبة تصويت تفوق الأحزاب السياسية الموجودة، الأمر الذي قد يستحيل معه بقاء منصب الرئاسة شبه فخري، كما كان دائماً حتى الآن. إضافة إلى ذلك فإن هناك صلاحيات عدة معطاة للرئيس في الدستور التركي، ولكنها تقليدياً غير مفعلة، الأمر الذي دفع باردوغان للتصريح علناً بأنه في حالة انتخابه “سيستعمل كل صلاحياته”، وسيكون رئيساً “يجري، ويعمل ويتصبب عرقاً”. وهو ما يعطي المرشحين الباقين نفس الحق في حال وصلوا إلى سدة الرئاسة.
لكل هذه الأسباب، ولأسباب أخرى داخلية وخارجية، تكتنف الانتخابات الرئاسية المقبلة أهمية كبيرة، بل ربما استيراتيجية، قد ترسم سياسة تركيا في السنوات القليلة القادمة. وعليه فقد دفع حزب العدالة والتنمية بزعيمه ورجله القوي للمنافسة، بينما ما زالت المعارضة التركية تتخبط وتقدم أداء لا يرقى لمستوى الحدث، يتمظهر فيما يلي:
أولاً، فشلت المعارضة في تقديم مرشح من داخلها، تحديداً حزبا الشعب الجمهوري والحركة القومية، وهذا يظهر إفلاساً سياسياً، أو اعترافاً بالتوجه الشعبي التركي الذي يخالف توجهات حزبيهما.
ثانياً، أنزل الحزبان مرشحهما التوافقي، الأمين العام السابق لمنظمة التعاون الإسلامي البروفيسور أكمل الدين إحسان أغلو، بقرارات فوقية دون مشاورات حزبية داخلية، الأمر الذي دفع بالكثيرين من داخل الحزبين – ومنهم شخصيات قيادية – إلى الصدح برفضهم هذا المرشح. حتى إن بعض قيادات حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، أعلنوا عن نيتهم ترشيح شخصية أخرى من داخل الحزب قبل أن يعدلوا عن رأيهم تحت الضغط ومنعاً لانقسام الحزب. يقابل ذلك مشاورات وحوارات أدارها العدالة والتنمية لعدة شهور في كل دوائره الشعبية والقيادية، ومع الفئات الشعبية والنقابية والحزبية المختلفة وبعد عدة استطلاعات رأي ليصل إلى ترشيح اردوغان، دون إغفال أنها كانت رغبة الأخير الشخصية قبل كل هذا.
ثالثاً، فشلت المعارضة حتى الآن في تسويق مرشحها التوافقي لدى حاضنتها الشعبية، وخاصة الشعب الجمهوري، الذي تظهر استطلاعات الرأي عدم موافقة الكثيرين من مؤيديه على إحسان أوغلو، خاصة العلويين واليساريين، وأن الكثيرين منهم سيقاطعون الانتخابات أو سيبطلون صوتهم، ويتوقع أن يصوت البعض لاردوغان نفسه.
رابعاً، تظهر المعارضة مرة في إثر مرة عن نخبويتها وبعدها عن الشارع التركي، وعدم إدراكها لواقع تركيا الحالي، لدرجة أن شعار مرشحها هو “أكمل الدين من أجل الخبز”، وكأن تركيا إحدى الدول الفقيرة التي لا تكاد تجد رغيف الخبز، فيما مرشح الحزب الحاكم يتحدث عن “تركيا القوية” وأهداف “تركيا الكبيرة” عام 2023.
خامساً، عجزت المعارضة التركية حتى الآن – وهذا الأهم – عن صياغة مشروغ خاص بها ينافس الحزب الحاكم أو يعرض وجهة نظر مختلفة عنه، أو رؤية لتركيا التي تريد، فيما تكتفي بالتلاسنات السياسية والهجوم الشخصي والتراشقات الإعلامية، الأمر الذي ما عاد مقنعاً جداً للناخب التركي الذي يرى ما قدمته الحكومات التركية المتعاقبة منذ وصول العدالة والتنمية إلى سدة الحكم عام 2002.
حسناً، هل هذا خبر جيد للحزب الحاكم ومناصريه؟ لا أعتقد. قد يعطي هذا على المدى القصير فرصة للعدالة والتنمية لإكمال مسيرته وتنفيذ رؤيته لتركيا القوية أو الكبيرة، دون معيقات كثيرة، باعتبار أن التوافق بين الرئيس والحكومة أمر في غاية الأهمية لتسيير شؤون البلاد بسلاسة ووفق رؤية واضحة، تماماً كما تم ذلك في عهد الرئيس غول، ونقيضاً لما كان يتم من محاولات الإعاقة والإفشال زمن الرئيس الأسبق أحمد نجدت سيزار.
لكن الخطر الأكبر يقع على المدى البعيد، حيث تحتاج كل دولة في مسيرة نجاحها إلى حكومة نشطة، وكذلك إلى معارضة قوية وقادرة على المعارضة الإيجابية وطرح البدائل، بما يشكل منافسة مستمرة تحض الحزب الحاكم على الاستمرار في العمل الدؤوب، فيكون الشعب بين خيارين، إما حزب حاكم يعمل بنشاط، أو معارضة جاهزة تستثمر فشله لتقود.
أما حالة المعارضة الضعيفة المشتتة فاقدة الرؤية، فتؤدي على المدى البعيد إلى تراخي الأحزاب الحاكمة وانخفاض مستوى أدائها، لغياب المنافسة وفقدان البديل، مما قد يجعلها تجنح إلى الكسل أو البطء أو الروتين في العمل، وهو ما غاب عن الساحة التركية منذ 2002، ولا يريد الشعب التركي – ولا يستحق – أن يعود له لاحقاً.
إن معارضة قوية وقادرة وذات رؤية واضحة وبرامج بديلة ضرورة وحاجة للحزب الحاكم وللشعب ولتركيا، قبل أن تكون ضرورة وحاجة ملحة لأحزاب المعارضة المختلفة.