قبل أيام شهد السلك القضائي التركي انتخابات الهيئة العليا للقضاة والمدعين العامين، حازت اهتماماً سياسياً وإعلامياً كبيراً لما لها من تأثير في المشهد السياسي الداخلي في تركيا. فهذه الهيئة المسؤولة عن بعض المهام الإدارية المتعلقة بالقضاة والمدعين العامين، مثل الابتعاث والترقيات وتوزيع المهام والانتداب، كانت تمثل القلعة الأخيرة لجماعة الداعية التركي فتح الله كولن في مواجهته المفتوحة منذ فترة مع حكومة بلاده.
أسباب الخلاف
بعد حوالي 10 أعوام من التحالف بين حزب العدالة والتنمية وحركة “الخدمة” بزعامة كولن، بدأت بوادر الخلاف بل والنزاع بين الطرفين في شباط/فبراير من العام 2010 إثر استدعاء أحد المدعين العامين – المحسوبين على الجماعة – لرئيس جهاز الاستخبارات التركي لأخذ إفادته كمتهم، على خلفية لقائه مع ممثلين عن حزب العمال الكردستاني في أوسلو، ضمن ما عرف لاحقاً باسم “عملية السلام” لإنهاء النزاع المسلح وحل القضية الكردية سلمياً.
كان ذلك الحدث بداية لسلسلة مواجهات أظهرت أن الحليفين السابقين قد دخلا في مرحلة منافسة إن لم يكن صراعاً صفرياً، بعد أن كانت ملفات الخلاف السابقة كأسلوب إدارة الملف الكردي أو تنظيم المعاهد الدراسية الخاصة (التي تدر مالاً وفيراً وتملك الجماعة ما يقارب من ربعها) مجرد اختلافات في وجهات النظر.
لاحقاً، اتخذت التغطية والسياسات التحريرية لوسائل الإعلام المملوكة للجماعة أو الدائرة في فلكها منحى هجومياً في وجه الحكومة على طول الخط، سيما خلال أحداث حديقة “جزي” العام المنصرم، متخذة من شخص اردوغان هدفاً رئيساً لها.
حملة مكافحة الفساد
في السابع عشر من كانون أول/ديسمبر 2013، استيقظت تركيا على هزة سياسية كبيرة حين تم اعتقال أبناء 3 وزراء ورئيس بلدية كبيرة في اسطنبول إضافة لعدد من الموظفين الكبار ورجال الأعمال المقربين من الحكومة، ضمن حملة واحدة بادعاء التحقيق معهم في قضايا فساد مالي. اتضح بعد ذلك – وفق مصادر الحكومة – أن ثلاث قضايا منفصلة قد تم الترتيب لها دون قرار من الأجهزة المعنية، وجمعها دون رابط في قضية واحدة لتحدث هزة سياسية تؤدي إلى استقالة الحكومة.
لاحقاً، أعلنت الحكومة أن الكثير من التفاصيل التي تم تسريبها لوسائل الإعلام عن القضية ملفقة وغير صحيحة، إضافة لفبركة العديد من الأدلة والشهود، وأن القضية سياسية لا جنائية قام بها من أسمته “التنظيم الموازي” داخل أجهزة الدولة في محاولة للانقلاب على الحكومة، هذه المرة قضائياً.
وفي سياق ردها على ما اعتبرته مؤامرة بهدف النيل منها، قادت الحكومة بقيادة اردوغان سياسة مواجهة شاملة مع الجماعة/التنظيم الموازي. فبعد امتصاص الصدمة الأولى، التي تضمنت تعديلاً حكومياً غيَّر فيه اردوغان 4 من الوزراء المتهمين ضمناً في القضية في محاولة لتخفيف الضغوط السياسية عن الحكومة، بدأت خطة الأخيرة التي تقوم على عدة أعمدة، أهمها مؤسسات الدولة، الإعلام، الدعم المالي، والسلك القضائي.
مؤسسات الدولة
سعت جماعة “الخدمة” بقيادة كولن منذ عشرات السنين إلى التغلغل في مؤسسات الدولة، حفاظاً على نفسها وكينونتها، وأيضاً سعياً لأوراق قوة تمكنها من الوصول إلى سدة الحكم عبر السيطرة على مفاصل الدولة المهمة، ولذلك فقد عملت على الانتشار وشغل أماكن حساسة في مختلف مؤسسات الدولة، خاصة الجيش والاستخبارات والشرطة والقضاء.
هذا النفوذ الكبير للجماعة إضافة إلى اعتمادها سياسة إخفاء هوية عناصرها وتوجهاتهم داخل المؤسسات جعلها صاحب كلمة نافذة ساعدتها على ترتيب قضايا بهذا الحجم والخطورة دون علم الحكومة والوزراء، بل والرؤساء المباشرين في مختلف الأجهزة.
ولذلك، ومنذ اللحظة الأولى سعت الحكومة إلى تقليم أظافر التنظيم داخل مؤسسات الدولة. فكانت البداية مع جهاز الاستخبارات، الذي يرأسه رجل اردوغان القوي حاقان فيدان، حتى ما قبل القضية الأخيرة. لاحقاً قامت الحكومة بحملات تغيير أماكن العمل والإحالة للتحقيق وأحياناً الإيقاف لعشرات من الموظفين المحسوبين على التنظيم الموازي، بعد بدئها تحقيقات شاملة وسريعة. ومما سرَّع في وتيرة هذه الإجراءات فضيحة التجسس على اجتماع أمني – عسكري حساس بخصوص سوريا وتسريب محتواه على مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي اعتبره الكثيرون – حتى من غير المتعاطفين مع العدالة والتنمية – تجاوزاً لكل الخطوط الحمراء وخيانة للوطن وإضراراً بمصالحه في سبيل إيقاع الأذى بالحكومة.
الملف الاقتصادي .. تجفيف المنابع
وعلى صعيد آخر، سعت الحكومة لنزع أوراق القوة من الجماعة، سيما التمويل والتبرعات والدعم المالي الذي تتميز به. ففي حين تكفلت الحملة الإعلامية في تشويه/فضح سياسات وإجراءات التنظيم الموازي تباعاً مما أدى إلى ركود حركة التبرعات النشطة التي كانت تغذي أنشطة الجماعة، عملت الحكومة منذ اليوم الأول على تحريض المواطنين – وعلى لسان اردوغان نفسه – على عدم التبرع لها، بل وسحب أرصدتهم من “بنك آسيا” المصرف المحسوب عليها.
لاقت هذه الدعوات صدى لا يمكن الاستهانة به لدى أطياف من الشعب سحبوا فعلاً أرصدتهم من المصرف، الأمر الذي أوقعه في ضائقة مالية اضطرت القائمين عليه لعرضه للبيع، بينما تروج تسريبات إعلامية عن احتمالية إعلانه الإفلاس ووضعه تحت الرقابة المالية.
مؤخراً، وفي سياق متصل، أصدرت إحدى المحاكم قراراً يحظر على جمعية “أليس من مغيث” (kimse yok mu) الإغاثية التابعة للجماعة جمع التبرعات إلا من أعضائها، ليضاف القرار إلى باقي المواقف والإجراءات التي أدت مجتمعة إلى أزمة مالية كبيرة تعاني منها الجماعة، انعكست على كثير من مؤسساتها وأنشطتها.
انتخابات القضاء
في هذا السياق من المعركة المحتدمة بين الحكومة والجماعة تأتي انتخابات الهيئة العليا للقضاة والمدعين العامين التي تسيطر عليها الأخيرة، وأشارت بعض التوقعات إلى إمكانية أن تجدد سيطرتها عليها وإن بنسبة أقل، لكن النتائج خالفت كل التوقعات.
فقد تنافس في الانتخابات ثلاث قوائم: “منبر الوحدة في القضاء” المقربة من الحكومة، و”يارساف” العلمانية، وثالثة مستقلة محسوبة على جماعة كولن، المسيطرة على الهيئة والمتنفذة في القضاء.
في النتائج التي أعلنتها لجنة الانتخابات، فاز منبر الوحدة في القضاء بثمانية أعضاء من أصل عشرة أصلاء، وأربعة من أصل ستة احتياطيين تم انتخابهم، فيما سيعين رئيس الجمهورية أربعة أعضاء، إضافة إلى وزير العدل وعضو تختاره “أكاديمية العدل” من بين أعضائها، لتتم الهيئة بأعضائها الـ 22. وبهذا تكون الحكومة قد حصلت على غالبية مريحة وتكون الجماعة – وبفعل تحالف الأغلبية ضدها بسبب سياساتها الإقصائية السابقة – قد فقدت سيطرتها على الهيئة التي كانت حجر عثرة أمام العديد من الإجراءات الحكومية في السلك القضائي، ومنعت محاسبة أو معاقبة رجال الشرطة والأمن المشتبه بتورطهم في عمليات تجسس أو الانتماء للتنظيم الموازي.
ماذا بعد؟
لم يتأخر رد كولن كثيراً، فبعد يومين من الانتخابات صدر له تسجيل لم يتطرق فيا إلى الانتخابات بشكل مباشر، قال فيه إن “الإدعاءات بوجود التنظيم الموازي ونسبة كل شيء له لن تستر عورة السرقة” في إشارة إلى اتهامات الفساد المالي. لكن، بكل الأحوال، لا يبدو أن الحكومة ستحفل بخطابه المهاجم كما لم تحفل سابقاً بخطابه المهادن، ويبدو أنها ستسير بعد هذه الانتخابات ذات الدلالة والتأثير في مسارين:
الأول، مسودة قانون تتضمن إصلاحات وصلاحيات جديدة للجهاز القضائي قدمتها الحكومة للبرلمان التركي لمناقشتها والمصادقة عليها، يتوقع أن تساعدها في تسريع القضايا المختلفة، بعد أن اطمأنت فيما يبدو إلى تراجع سيطرة الجماعة على القضاء، وبالتالي تضاؤل إمكانية أن تعود هذه الصلاحيات بالضرر عليها هي.
الثاني، إمكانية إعلان التنظيم الموازي تنظيماً إرهابياً أو ضاراً بالأمن القومي، والعمل على محاصرته داخلياً عبر القضاء وخارجياً عبر التواصل الدبلوماسي مع الدول التي يتواجد ويعمل على أراضيها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تستضيف زعيم الجماعة كولن، سيما وأن مطالب تركيا في هذا الجانب كانت قد لاقت تجاوباً سابقاً من قبل العديد من الدول.
بيد أن هذه الإجراءات تتضمن العديد من المخاطر والمحاذير، حيث يتوجب على الحكومة أن لا تضع مناصري الجماعة العاديين ومنتسبي المؤسسات المختلفة الذين عملوا تحت إمرة التنظيم الموازي في كفة واحدة، إذ تتميز القاعدة الشعبية للجماعة في غالبيتها بصفاء النية وصدق التوجه والعمل الدؤوب، وقد فشلت قيادتها في إقناعها بالتصويت ضد العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية وضد اردوغان في انتخابات الرئاسة مؤخراً.
كما تحتاج الحكومة إلى توضيح رؤية وسياسات الحملة التي تقودها ضد التنظيم الموازي للرأي العام وربما للمجتمع الدولي، وإلى إجراءات تضمن الشفافية في توجيه التهم والتحقيقات والمحاكمات وتمنع الأعمال الانتقامية أو الاتهامات الجزافية، الأمر الذي سيحقق العدل فضلاً عن أنه سيدعّم مقاربة الحكومة في معالجتها للمشكلة ورؤيتها فيما خص أسبابها ومظاهرها ونتائجها.