شهدت مختلف المدن التركية خلال الأسبوع الفائت فعاليات مكثفة تنديداً بالانقلاب في مصر ونصرة لـ 528 شخصاً حكم عليهم بالإعدام ظلماً وعدواناً. تنوعت هذه الأنشطة بين وقفات احتجاجية لبس الشباب التركي فيها الأكفان، ومظاهرات حاشدة من المساجد بعد الصلوات، والدعوة لصلاة الفجر في مساجد محددة مسبقاً للدعاء لمصر (وسوريا)، وحملات نشطة على وسائل التواصل الإجتماعي.
ولعل هذا الزخم في فعاليات دعم الثورة المصرية، والأساليب المتنوعة والمتجددة في تلك الأنشطة، واتساع نطاق المشاركين فيها يعيد طرح السؤال القديم: لماذا كل هذا التعاطف والتفاعل من الأتراك مع مختلف قضايا الأمة؟
الشعب التركي وقضايا الأمة
منذ عشرات السنين، لا تخفى على عين المتابع حركة الشارع التركي – لا سيما الإسلاميين – مع قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية المركزية فلسطين. ومع مرورالسنين وتكاثر الأزمات في غير بلد، رأينا خلال السنوات الأخيرة تحديداً هبة تركية في كل أزمة حلت بالعالم العربي والإسلامي، بدءاً بفلسطين، ومروراً بالصومال والعراق وميانمار وإفريقيا الوسطى، وليس انتهاءً بسوريا ومصر.
ولعل السبب الأول في هذا الاهتمام الملحوظ هو تعطش الشعب التركي – سيما الإسلاميين – للاتجاه مجدداً نحو العالم العربي والإسلامي، بعد عقود من محاولات التغريب وتغيير الهوية. كان الشعب التركي وما زال يرى أزمات العالم الإسلامي أزمته هو، ويعتبر نفسه مسؤولاً عن محاولة إيجاد الحلول لها باعتباره جزءاً من هذه الأمة.
وربما يكون ثاني الأسباب هو جو الحرية الذي تنعم به تركيا منذ سنوات، خصوصاً مع حكم العدالة والتنمية، مما شجع مختلف الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني على التفاعل مع مختلف القضايا دون خشية المحاسبة أو الملاحقة القضائية، كما كان الحال في فترات الانقلابات السابقة.
ثالثاً، حساسية الشعب التركي تجاه الانقلابات العسكرية وما عاناه من أربع تدخلات مباشرة من العسكر في الحياة السياسية وما جرته على البلاد من قتل وظلم وتأخر في مختلف المجالات، وخاصة التنمية.
رابعاً، تأثر مختلف التيارات الإسلامية بدرجة أو بأخرى بجماعة الإخوان المسلمين، من خلال دراسة أدبياتها ومتابعة ومحبة رموزها والافتخار بتاريخها، لدرجة أن كثيراً منها تعتبر نفسها امتداداً فكرياً للإخوان، رغم عدم تواجد الإخوان تنظيمياً بين الأتراك.
خامساً، إيمان الأتراك بنظرية المؤامرة فيما جرى بعد الربيع العربي وخاصة في مصر، واعتقادهم أن تركيا لن تكون بعيدة عن هذه المؤامرة، وبالتالي فقد اعتبروا سقوط الانقلاب في مصر وعودة الشرعية وسيران عجلة الثورة من جديد أمناً وضماناً لتركيا ومسيرتها الديمقراطية أيضاً.
على المستوى الرسمي
أما الحكومة التركية بقيادة رجب طيب اردوغان، فقد فاجأت الكثيرين بسياساتها الثابتة والمتدرجة تجاه القضية الفلسطينية، حتى وصلت إلى القطيعة مع دولة الكيان على خلفية الهجوم على سفينة مافي مرمرة، ثم بسقفها المرتفع في الثورة السورية، وأخيراً بعدم الاكتفاء برفض الانقلاب على الثورة في مصر بل والهجوم عليه بشكل مستمر، وإصرار اردوغان تحديداً على رفع شعار رابعة في كل محفل ومهرجان خطابي.
ولعل السياسة التركية القائمة على المزج بين المبادئ والمصالح هو ما وجهها تلقاء مخالفة الدول الغربية واتخاذ مبادرات من شأنها النيل من الانقلاب وقادته، فضلاً عن استضافة الكثير من المصريين الذين اضطروا لمغادرة بلدهم تحت وطأة القتل والاعتقالات. ومن المفيد أن نذكر هنا أن السياسة الخارجية التركية تعاملت دائماً مع من اختاره الشعب في الدول المختلفة، بغض النظر عن اتجاهاته الفكرية والسياسية، وبناء على ذلك فلا تعترف تركيا بغير د. محمد مرسي رئيساً جاء بأصوات المصريين عبر شرعية الصناديق.
ويبرز تاريخ تركيا المثخن بالانقلابات وويلاتها عاملاً مهماً في هذا الموقف التركي القوي. فقد كانت أحزاب الإسلام السياسي (التي كان يؤسسها ويقودها الراحل أربكان، أستاذ قادة تركيا الحاليين) أكثر من تضرر من تدخل العسكر في الحياة السياسية، واردوغان نفسه سجن في فترة ما بعد انقلاب 1997 ومنع من مزاولة السياسية فترة بسبب ترديده لأبيات شعرية متداولة.
ثالثاً، أن الانقلاب المصري حدث في فترة كانت محاكمات المتهمين بالمشاركة في انقلابي 1980 و1997 والتخطيط لانقلابات أخرى ضمن قضيتي “أرغنكون” و”المطرقة” تجري على قدم وساق، ولم يكن ممكناً ولا منطقياً أن تحاكم تركيا من نفذوا أو حتى خططوا لانقلابات على أرضها، بينما تؤيد أو تعترف بانقلاب في إحدى دول المنطقة.
رابعاً، كانت تركيا وما تزال ترى في مصر الثورة شريكاً إقليمياً يمكن العمل والتعاون معه اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وربما أمنياً وعسكرياً، لإعادة التوازن إلى المنطقة، ولتعويض تركيا وتخفيف حاجتها لحليفها السابق دولة الكيان الصهيوني.
خامساً، رأت الحكومة التركية فيما جرى في مصر خطة إقليمية (بل دولية) تستهدف الربيع العربي ومن دعمه من دول المنطقة، وبالتالي اعتبرت أن استتباب الأمر للانقلاب سيتبعه تحريك مباشر للمشهد التركي الداخلي. وقد كانت أحداث حديقة “جزي” في اسطنبول في شهر أيار/مايو الفائت وما تلاه خير إثبات لهذه الرؤية، ولذلك فما فتئ اردوغان وقادة حزبه وحكومته يرددون اتهامات التعاون مع الخارج بغرض استهداف الحكومة لمن قاموا على هذه الأحداث، ثم جاءت الطامة الكبرى بالقضايا المرتبة في 17 كانون أول/ديسمبر 2013 لاتهام الحكومة ومحيطها بالفساد، تمهيداً لإضعافها ثم إسقاطها.
سادساً، من مميزات سياسات العدالة والتنمية في الحكم اعتماده على رأي ومزاج الشارع في كثير من القضايا، من خلال مراكز الدراسات والأبحاث التي تمكنه من جس نبض الشعب والتعرف على موقفه في كل ما يعرض له. وقد سبق أن ذكرنا التوجه الواضح لمعظم الشعب التركي لمناهضة الانقلاب ورفضه، مما يجعل الموقف الرسمي أكثر قوة حين يستند إلى قرار شعبي. وهذا ما جعل الأحزاب السياسية المختلفة تتنافس فيما بينها على تأكيد موقفها الرافض للانقلاب، وجعل مصر (وغيرها من قضايا المنطقة) حاضرة في الدعاية للانتخابات المحلية المنوطة بالخدمات والبعيدة من الناحية النظرية عن السياسة الداخلية فضلاً عن الخارجية.
ثوابت ومتغيرات
لهذه الأسباب وغيرها، يبدو الموقف الرسمي التركي مستمراً في صلابته من الانقلاب، لدرجة أن رئيس الوزراء اردوغان صرح بشكل واضح أن تركيا لن تعترف بالانقلاب حتى بعد الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها قريباً لأن “الانتخابات ليست مجرد عملية الذهاب والإدلاء بالصوت”، بل هي عملية كاملة متكاملة تتضمن أجواء الحرية والتنافس الشريف وتكافؤ الفرص والبعد عن الإقصاء.
ولذلك لفت الأنظار دخول شباب العدالة والتنمية مساحة تنظيم المظاهرات والوقفات التضامنية، وقد كانوا بعيدين كل البعد عن هذا النوع من الأنشطة كل السنوات السابقة. الأمر الذي يشي بموقف ثابت بل ومفتوح على التصعيد في المستقبل القريب، سيما إن استثمرت تركيا ثقلها الإقليمي وحضورها في المؤسسات الدولية لمحاصرة الانقلاب ونزع الشرعية عنه وفضح جرائمه، مما يضع على كواهل القوى السياسية والمجتمعية الرافضة للانقلاب في مصر وخارجها مسؤولية التفاعل والتواصل مع القيادة التركية لتحقيق أكبر المكاسب الممكنة في أقصر وقت متاح.