في فترة ما قبل الربيع العربي، ملأت تركيا العالم العربي وشغلت الناس فيه بتجربتها الواعدة. صحيح أن السنوات الأولى حملت الكثير من التوجس من قبل الكثير من قوى وتيارات العالم العربي – وفي مقدمتها القوى الإسلامية – باعتبار أن التجربة وقياداتها مدعومان من قبل الإدارة الأمريكية التي سوقت لمصطلح “النموذج التركي”، إلا أن التجربة حملت لاحقاً الكثير من المواقف والنتائج التي حصدت الإعجاب وووصلت أحياناً حد الافتتان.
ولئن حاولنا حصر أهم ملامح ومنجزات هذه التجربة (التي نسميها التجربة التركية من باب إطلاق اسم الكل على الجزء) لأمكننا ذكر الانفتاح على الداخل والخارج والتنمية الاقتصادية والقدرة على الإنجاز في السياسة الخارجية كأهم مرتكزات النجاح المرصودة، على الأقل لافتقار التجارب العربية لها، كما يبدو لي.
لكن، منذ لحظة الربيع العربي التي راهنت عليها تركيا – مبدئياً أو استراتيجياً أو مصلحياً أو ما شئت فليس هذا هو مجال بحث هذا المقال – تغيرت الكثير من الأمور. فما عادت تركيا مقبولة من قبل بعض دول المنطقة، ولا بات هناك وجود لنظرية تصفير المشاكل مع دول الجوار، ولا رأينا إنجازات استطاعت تركيا أن تحققها في سياساتها الخارجية، على الأقل فيما خص قضايا المنطقة والربيع العربي على وجه التحديد، بينما تبدو الليرة التركية في تراجع مستمر أمام الدولار وسط استقطاب داخلي. فهل زال مفعول السحر التركي؟ وهل ما زال بالإمكان فعلاً الحديث عن تجربة تركية ما؟
والحقيقة أن الحكم على الشيء فرع من تصوره كما يقول الأصوليون، والحكم على التجارب يتضح من خلال المعايير التي نضعها لتقييمها. وقد كان لكاتب هذه السطور الكثير من المقالات والمحاضرات التي يعتبر فيها جزءاً مهماً مما امتـُدِح في التجربة الاقتصادية للعدالة والتنمية من السلبيات وليس الإيجابيات بالضرورة، تحديداً نهج الليبرالية الاقتصادية المتبع.
من جهة أخرى لا يجب النظر إلى العلاقات مع الغرب على أنها هدف بحد ذاتها، بل يمكن اعتبارها وسيلة أو أداة حفظت الحزب في بداياته من خطر الحظر أو الانقلاب عليه كما حصل مع كل سابقيه، ولذلك فقد سارع في بداية تأسيسه لتقديم أوراق اعتماده في الداخل والخارج على أنه حزب خدماتي محافظ غير مؤدلج. كما لا يمكن تقييم نظرية “تصفير المشاكل” التي وضعت في فترة الهدوء والسلام في المنطقة – ونجحت في ذلك الوقت إلى حد بعيد – في ظل محيط لاهب وثورات وحروب.
اليوم، تبدو تركيا في طور جديد من تجربتها، داخلياً وخارجياً، حتى باتت أقرب إلى رسم هوية ما وصورة نمطية معينة عنها، وهو ما كانت تفتقده في السابق. وأحسب أن استراتيجيي العدالة والتنمية قد تعاملوا مع تجربتهم وفق مراحل ثلاث تمر بها كل التيارات والدول: الوجود أو البقاء، ثم الاستمرار أو الاستقرار، ثم التنمية، وهم يعملون الآن على صناعة المستقبل/الاستراتيجيا وفق ما يسمونه مشروع “تركيا الجديدة”.
صحيح أن الليرة تتراجع أمام الدولار لأسباب خارجية وداخلية، لكن الاقتصاد التركي ما زال أقدر على مواجهة الأزمات الاقتصادية العالمية أكثر من كثير من الاقتصادات المعروفة، وصحيح أن الاستقطاب سيد الموقف في تركيا لكنه ليس بالضرورة شراً محضاً، وصحيح أن الغرب لم يعد راضياً عن تركيا، لكن من قال إن رضاه هو المعيار؟!!
تبدو تركيا اليوم أكثر اتجاهاً نحو استقلالية نسبية في سياستها الخارجية عن الغرب، وهذا شيء يجب أن يمتدح لا أن ينتقد، كما أرى أن تـُطوِّر – فعلياً إن لم يكن نظرياً – نظرية تصفير المشاكل لتناسب الواقع الحالي الذي تحول إلى “صفر هدوء” في محيطها، وتسعى لشراكات إقليمية حتى ولو لم تتحول بالضرورة إلى أحلاف أو تحالفات وثيقة، وقد وضعت لنفسها رؤية لعام 2023 تجدُّ لتحقيقها.
ومن الطريف أن الذين تحمسوا للتجربة التركية حين كانت تعبيراً عن “الإسلام الخفيف” او “الإسلام اللطيف” وطالبوا العرب باتباعها واقتباسها هم الذين ينتقدونها اليوم ويشنعون عليها، فيما الذين خافوها وحذروا منها في البدايات – من الإسلاميين خصوصاً – هم من يعتبرونها اليوم القلعة الأخيرة الباقية في دعم حقوقهم وقضاياهم.
إن المشكلة الأولى في تقييمنا للتجربة التركية هو التقييم العاطفي أو المصلحي المتنكر للموضوعية، كما تكمن الثانية في أننا نقيمها اليوم بأدوات ومعايير ونتائج الأمس، بينما نحن الآن أمام تجلٍّ جديد أو مرحلة متجددة من التجربة، وهذا هو المعنى الأدق والأكثر تعبيراً عنها، إذ هي “تجربة” مستمرة تحمل مفردات العمل والتقييم والتطوير المستمر. وللحكاية بقية.