لم تكن كذبة الأول من نيسان، لكنها أحداث وتطورات متلاحقة في تركيا منذ أيام أثارت العديد من الأسئلة حول ما يحدث ومن يقف خلفها ولماذا، إلى غيرها من عشرات علامات الاستفهام. فقد غاب التيار الكهربائي عن عشرات المحافظات والمدن التركية بشكل متزامن ومفاجئ أولاً، ثم تم اختطاف وقتل أحد المدعين العامين في قصر العدل في اسطنبول، ثم هوجمت مديرية الأمن الرئيسة في نفس المدينة، مما جعل عنوان هذا المقال يتردد على ألسنة وصفحات وعقول الكثيرين.
بداية، لا شك أن لكل حادث من هذه الأحداث تفسيره وسياقاته المفهومة إذا ما تناولنا كلاً منها على حدة، لكن تواترها وتزامنها وتلاحقها في مدة زمنية قصيرة يستوجب منا تناولها وفق المشهد العام وبتحليل أعمق.
ولا شك أن قرب الانتخابات البرلمانية قد يفسر الكثير من هذه التطورات، إذ تشهد تركيا في العادة الكثير من التقلبات والاضطرابات السياسية والاقتصادية وحتى الأمنية قبيل كل انتخابات، خاصة في السنوات القليلة الأخيرة مع استمرار العدالة والتنمية في حكم البلاد، وزيادة الاستقطاب داخلياً وإقليمياً، لكنها – أي الانتخابات – تبدو أعجز من تفسير المشهد بكليته.
هنا، لا بد من تسجيل عدد من التطورات المهمة والحساسة مؤخراً في تركيا والمنطقة، إضافة إلى عامل الانتخابات المحوري، أهمها:
أولاً، حملة “عاصفة الحزم” العسكرية في اليمن، والتي ترافقت مع لهجة تركية جديدة ضد إيران، حيث تحدث المسؤولون الأتراك لأول مرة عن “التمدد الشيعي” في المنطقة، بينما طالب اردوغان إيران بسحب قواتها من اليمن والعراق وسوريا ودعاها إلى “الكف عن تهديد الأمن والسلم في المنطقة”، ولا بد أن هذه التصريحات قد أغضبت الإيرانيين.
ثانياً، المعلومات الاستخبارية التركية التي سربت للإعلام مؤخراً ومفادها أن النظام السوري قد درب مجموعات من أنصاره (أو السجناء الجنائيين) على أعمال العنف والتفجيرات والاغتيالات ويخطط لإرسالها لتركيا لإحداث حالة من الفوضى قبل الانتخابات.
ثالثاً، الحملة المشددة مؤخراً على الكيان الموازي في الدولة، أو القيادة المتنفذة في جماعة كولن، في أكثر من ملف كان آخرها خروج وثائق في وسائل إعلام محسوبة على الحزب الحاكم تدعي انتماء كولن للماسونية.
رابعاً، عملية السلام مع الأكراد التي دخلت في مرحلة حاسمة مؤخراً عبر تأكيد أوجلان دعوته لإلقاء السلاح نهائياً وانتهاج العملية السياسية طريقاً للحل، في مقابل معارضة بعض قيادات الحزب، خاصة تلك المتواجدة في جبال قنديل في العراق.
خامساً، إقرار البرلمان التركي الأسبوع الفائت قانون “الأمن الداخلي” الذي يعطي صلاحيات أوسع للحكومة ومؤسساتها الأمنية في مواجهة العنف والاعتداءات، ويجرم تحديداً استعمال المواد الحارقة (المولوتوف) وتغطية الوجه خلال المظاهرات، وهو ما يبدو أنه أضر أكثر ما أضر بالمنظمات الكردية اليسارية التي سنتحدث عنها.
وهكذا يبدو أن الامتعاض من العدالة والتنمية والحرص على عدم تحقيقه فوزاً مريحاً آخر في الانتخابات القادمة لا يقتصر على أحزاب المعارضة الداخلية التي تبدو بعيدة عن هذه الأحداث المذكورة، بل يتعداها إلى أطراف داخلية وخارجية كثيرة غير سعيدة بالمواقف والتصريحات التركية الأخيرة، وقد تكون بالتالي مسؤولة عن هذه الأحداث، متفرقة أو مجتمعة أو بالتنسيق بين بعضها البعض.
ذلك أن المنظمة التي تبنت عملية قتل المدعي العام ومهاجمة مديرية الأمن (جبهة حزب التحرير الشعبي الثوري) هي منظمة يسارية ماركسية – لينينية، لا تتبنى فقط فكرة إسقاط الحزب الحاكم، بل تقود منذ 1994 حرباً عسكرية بهدف إسقاط نظام الدولة لإقامة ما تسميه “حكماً شعبياً ثورياً” مستمداً من المبادئ الماركسية – اللينينية.
وإذا كانت أغلب – إن لم يكن كل – المنظمات المسلحة التي تخوض صراعاً ضد حكوماتها تحصل في العادة على دعم خارجي يفتح الباب على إمكانية توجيه قرارها وعملياتها العسكرية، فإن هذه المنظمة معروفة الصلات ببعض الأنظمة الإقليمية التي لا تحمل الكثير من الود لتركيا وحكومتها حالياً. كما يتواجد قادتها في عدد من الدول الأوروبية، بينما تدعي تركيا وجود معسكرات تدريب لها في كل من سوريا واليونان، خصوصاً أن أحد قيادييها السابقين (معراج أورال أو علي كيالي) كان قد فر إلى سوريا حيث تتهمه المعارضة بالمسؤولية عن عدد من المجازر هناك، وتتهمه الحكومة التركية بالمسؤولية عن تفجير الريحانية الشهير في 2013.
أما عن سيناريوهات هذه الهجمات وانعكاساتها المحتملة، فيمكن القول إنها سكين ذو حدين. إذ قد تؤدي فعلاً الغرض منها بالتشويش على الحكومة وإظهارها في موقف الضعف والعجز أمام التحديات، سيما داود أوغلو الذي خلف اردوغان، بينما يمكن أن تستثمرها الحكومة – كما فعلت في أزمات سابقة – لزيادة الالتفاف الشعبي حولها بدعوى الاستهداف ومحاولات الانقلاب عليها بطرق غير ديمقراطية.
لقد أظهرت المؤسسات الأمنية ثغرات واضحة، في هجوم قصر العدل وقتل المدعي العام، وفي عدم القبض المسبق على الفتاة التي نفذت هجوم مديرية الأمن رغم أنها معروفة التوجه والتخطيط لعمليات إرهابية وشيكة، كما ظهرت الحكومة في موقف لا تحسد عليه حين غرقت معظم البلاد في الظلام. لكنها من ناحية أخرى أبدت نجاحات تحسب لها حتى الآن، في إفشال الهجوم على مديرية الأمن، وفي إعادة الكهرباء خلال ساعات اليوم نفسه. وهذا الأخير نجاح يحسب لوزير الطاقة تانر يلدز الذي يبدو مستهدفاً بشكل شخصي منذ فترة، حيث طالبته المعارضة بالاستقالة في أكثر من مناسبة رغم اعترافها بأدائه الجيد ومصداقيته، كما لا يفوتنا الإشارة إلى تفصيل مهم وهو أن عملية قطع الكهرباء حصلت وهو في زيارة خارج البلاد رفقة اردوغان.
في الخلاصة، يبدو أننا أمام شبكة مصالح داخلية وخارجية مستاءة من الحكومة التركية والرئيس اردوغان، وجدت ثغرات عدة لتنفذ منها، وتبدو الحكومة حتى الآن متماسكة وممسكة بزمام الأمور رغم أدائها المتذبذب. لكن استمرار الأحداث الأمنية، وطريقة تعامل الحكومة مع هذه التهديدات، إضافة إلى المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه العمليات أو أي مفاجآت أخرى غير متوقعة (تسربات صوتية، سيارات مفخخة، اغتيالات؟) ستكون عوامل محددة في إمكانية تأثيرها على الرأي العام في انتخابات حزيران/يونيو القادم، لكنها في كل الأحوال مرشحة للتصاعد مع اقتراب المنافسة الانتخابية.