العين الأمريكية التي لم تعد ترى تركيا

لم يعد سراً ولا خافياً الأزمة التي تمر بها العلاقات التركية الأمريكية، تلك التي بنيت عبر عشرات السنين على مبدأ تبعية الأولى للثانية، واعتبارها “قاعدة متقدمة” تحمي مصالحها من الخطر الشيوعي وفق خطة مارشال، ثم انتقلت إلى مرحلة “الشراكة” في عهد العدالة والتنمية. بيد أن السنوات القليلة الماضية (ربما يصح التأريخ هنا ببداية الربيع العربي أو قبله بقليل) حملت متغيرات كثيرة حاول الطرفان إنكارها والقفز عنها قبل أن تتبدى واضحة في التصريحات والمواقف المتعددة.

لقد دفعت أحداث “جزي بارك” في 2013 وادعاءات الفساد في نهايته العلاقة بين الطرفين إلى حافة الاختلاف والخلاف، بينما كان تشكيل التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة القشة التي قصمت ظهرها. فبعد سنوات من تقديم واشنطن لأنقرة على أنها النموذج الذي يجب على الدول العربية والإسلامية أن تتمثله كدولة تجمع بين الإسلام والديمقراطية، يبدو أن الاستقلالية النسبية التي حاولت تركيا انتهاجها في سياستها الخارجية فيما خص قضايا المنطقة دفعت باتجاه حملات إعلامية غربية ضدها، إضافة إلى اتهامات بدعم “الإرهاب” على ألسنة عدد من المسؤولين في مقدمتهم السيناتور ماكين.

لقد رأى كثير من المراقبين – كنا من بينهم – في تضخيم الولايات المتحدة لمعركة عين العرب/كوباني وضغطها الشديد على تركيا للتدخل فيها محاولة من الأولى لتوريط الأخيرة في رمال المنطقة المتحركة، فيما هي تتصلب في موقفها الرافض للتجاوب مع شروطها للانخراط في المعركة البرية، الشروط التي كان من شأنها تقليل مخاطر مشاركتها إلى الحد الأدنى الممكن.

وفي معرض تجاهلها لأنقرة وضغطها عليها، تواصلت واشنطن – وعدد من حلفائها – سياسياً مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (المصنف إرهابياً في تركيا باعتباره الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني)، وقامت طائراتها برمي بعض الأسلحة والمساعدات لقوات الحماية الكردية في عين العرب رغم اعتراض تركيا العلني، وهو في العموم موقف لم يتكرر بعد وقوع بعض الأسلحة بيد تنظيم الدولة، وهو الأمر الذي سبق وأن حذرت منه أنقرة.

واليوم، وبعد أشهر طويلة من إعلان تأسيس التحالف الدولي دون نتائج كبيرة، وبعد أسابيع من انتهاء معركة عين العرب بسيطرة القوات الكردية عليها وتراجع التنظيم، وبعد أن غابت طويلاً أخبار اللقاءات التركية الأمريكية لتنسيق المواقف أو مناقشة شروط أنقرة لصالح الخطط الأمريكية التي باتت تعتمد بالكامل على قوات البشمرغة وقوات الحشد الشعبي العراقية وحتى المجموعات الإيرانية، وبعد الخلاف المعلن بين الحليفين على هدف وأولوية المعارضة السورية المتفق على تدريبها (الشرط التركي الثالث)، أخيراً أبرم الطرفان اتفاقاً يقضي بتدريب تلك القوات – التي سيختارها ويدربها الطرفان – دون تحديد الجهة التي ستحاربها، الأسد وداعش كما تريد أنقرة أم داعش فقط كما تريد واشنطن.

في مقال حديث له بعنوان “عودة إلى لعبة الشرق الأوسط” يتحدث نائب رئيس مؤسسة بروكنجز مارتين إنديك عن السيناريوهات المطروحة أمام بلاده لإعادة الاستقرار إلى المنطقة والحفاظ على مصالحها فيها، وقارن بين تعاون الولايات المتحدة مع حلفائها التقليديين (ومن بينهم تركيا) وبين توثيقها روابط العلاقة المستحدثة مع العدو السابق إيران. اللافت في مقال إنديك – الذي عمل سابقاً سفيراً ومساعداً لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، ومساعداً خاصاً للرئيس الأمريكي في مجلس الأمن القومي – أنه ذكر تركيا ضمن أربعة بلدان كانوا “سابقاً” أعمدة واشنطن في المنطقة، بينما غابت أنقرة عن قائمة “الحلفاء الحاليين” الذين يجب عليها أن تتعاون معهم وفق السيناريو الأول.

وبغض النظر عما إذا كان المقال لشخصية بهذه المكانة والخبرة تعبيراً عن حاضر السياسة الأمريكية أم توجيهاً مستقبلياً لها، فإنه بات من المعلوم بالضرورة أن العلاقات الثنائية بين الحليفين السابقين لم تعد كما كانت بعد أن وهنت عرى الثقة بينهما. ولئن صدقت الأخبار بالترتيب لعملية عسكرية برية واسعة ضد “تنظيم الدولة” في العراق خلال هذا الشهر، فستكون اختباراً آخر لمدى تدهور العلاقات الثنائية أو ربما فرصة لإعادة الدفء إليها، وهذا ما دفعنا لاعتبار عملية تركيا الأخيرة على الأرض السورية (نقل رفات سليمان شاه) بمثابة رسالة ثنائية، رسالة ردع للعدو وضغط على الحليف تحمل معاني التأكيد على القدرة والجاهزية والأهمية.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

دعوة أوجلان لإلقاء السلاح .. ما الجديد؟

المقالة التالية

عن الحركات الإسلامية والشباب والنقد

المنشورات ذات الصلة