بعد منتصف ليلة الأمس بدقائق وبطريقة مفاجئة، أعلن في تركيا عن استقالة رئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان من منصبه، ليتاح له الترشح للانتخابات البرلمانية المزمعة في شهر حزيران/يونيو القادم. حساسية المنصب والملفات التي كان الرجل مسؤولاً عنها تضفيان أهمية خاصة على الاستقالة والترشح، وتطرحان العديد من الأسئلة على طاولة البحث، خاصة فيما يتعلق بدوره المستقبلي.
الملحوظة الأولى في الاستقالة أنها جاءت في توقيت ذي دلالة وهو الدقائق الأولى ليوم السابع من شباط/فبراير، التاريخ الذي استدعي فيه فيدان للتحقيق معه فيما يتعلق بلقاءات أجراها مع حزب العمال الكردستاني في العاصمة النرويجية، وشاع وقتها أنه سيحاكم بتهمة التعامل مع تنظيم إرهابي (الخيانة العظمى)، وكان الحدث وقتها القشة التي قصمت ظهر العلاقة المتوترة أصلاً بين الحكومة وجماعة الخدمة/كولن. لكن، لا يبدو أن الأمر يتعدى هذه الرمزية والتوافق الزمني، باعتبار أن آخر موعد لتقديم الترشحات للانتخابات البرلمانية هو العاشر من الشهر الحالي، أي بعد 3 أيام من الاستقالة.
ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان سراعاً هو: لماذا يستقيل رئيس جهاز الاستخبارات من أجل مقعد برلماني؟ وما الذي يريده من وراء النيابة ليضحي بقيادة أحد الأجهزة الرئيسية في البلاد، والتي له بصمة واضحة فيها، بعد أن أصبح ذراع اردوغان الأول والأقوى، وسده المنيع أمام محاولات إسقاطه؟
الحقيقة أن عضوية البرلمان مجرد عنوان لتولي الحقائب الوزارية، إذ أنه من “العرف السياسي” في تركيا أن يكون الوزراء نواباً في البرلمان، رغم أن القانون لا يوجب ذلك، إلا في منصب رئاسة الحكومة. وبالتالي، فمن المقطوع به أن فيدان يسعى إلى – أو يراد له – منصب وزاري في الحكومة التي ستتشكل فيما بعد الانتخابات، بينما يبقى هناك احتمال ولو ضئيل أن يكون هو رئيس الوزراء القادم، الأمر الذي إن تم قد يجعل استقالته الحالية مفهومة ومنطقية في ميزان الربح والخسارة.
ولا تتوقف أهمية الاستقالة فقط على حساسية منصب الرجل على أهميته، ولكن أيضاً لأهمية ومحورية الملفات المنوطة به مسؤولياتها، وهي الملفات الأخطر والأهم على أجندة الرئيس التركي والحكومة، تحديداً عملية السلام مع الأكراد ومكافحة الكيان الموازي.
فقد كان فيدان وما يزال حجر الزاوية بالنسبة لمشروع “الأخوة والوحدة” الذي يهدف لحل القضية الكردية سياسياً، منذ اللقاءات السرية المبكرة مع حزب العمال الكردستاني التي سبق ذكرها، وحتى المفاوضات غير المباشرة – وربما المباشرة – الحالية مع زعيم الحزب السجين عبدالله أوجلان. اليوم، ونحن على أبواب بدء المفاوضات النهائية المعلنة بين الطرفين، والتي يفترض أنها ستكون واضحة العناوين الكبيرة والإطار السياسي والجدول الزمني، تطرح استقالة الرجل أسئلة ذات وجاهة حول تأثيرها على الملف برمته.
من جهة أخرى، لا يخفى الدور الذي لعبه رئيس جهاز الاستخبارات في الحرب الدائرة بين الحكومة التركية وما تسميه “الكيان الموازي” أو المجموعة المتنفذة في جماعة الخدمة التابعة بزعامة فتح الله كولن. فمحاولة اعتقاله هي التي فجرت الخلافات المستورة، وهو الذي وقف مع جهازه إلى جانب اردوغان وكان قلعته الأخيرة في ظل سيطرة التنظيم على الشرطة والامن والقضاء بدرجة أو بأخرى، وهو الذي كشف الكثير من تفاصيل التنصت على رجالات الدولة التركية وخاصة اردوغان، وهو الذي يحتفظ مع الأخير بعلاقات شخصية ومهنية ورسمية أكثر من مميزة، جعلت منه أمين سره وذراعه الأيمن بحق على مدى سنوات عمله.
ربما يكون شعور الحكومة الآن بأنها في موقع الهجوم لا الدفاع في حرب الكيان الموازي، وبأنها باتت تضيق الخناق عليه أكثر فأكثر، خصوصاً مع وضع اليد مؤخراً على بنك آسيا المحسوب على الجماعة، ربما يكون هذا ما شجع على قرار الاستقالة دون كبير قلق على مستقبل هذا الملف، لكن عالم السياسة كثير التقلبات والمد والجزر، وهو ما يعطي وجاهة لعلامات الاستفهام حول مدى التعجل في القرار، فضلاً عن صوابيته.
في العموم، فطرح استقالة فيدان من الجهاز وتسلمه حقيبة وزارية ليس وليد اليوم، فقد طرح اسمه لوزارة الخارجية في حكومة داود أوغلو لكن ذلك لم يحصل في حينها. كما إن الرجل كان قد تعرض لانتقادات شديدة، وحمل في وقت من الأوقات مسؤولية “فشل السياسية التركية في سوريا”، قبل أن تعود أسهمه فترتفع من جديد مع صفقة “تحرير” الرهائن الدبلوماسيين الأتراك وعائلاتهم من يد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” قبل أشهر.
أخيراً، هل من المنطقي والطبيعي أن يتخلى الرجل عن رئاسة جهاز الاستخبارات التركية من أجل منصب برلماني أو وزاري؟ بالطبع لا، إلا إن كان المنصب هو رئاسة الحكومة، وهنا تبرز إشكالية كبيرة. فالرجل ذو خلفية عسكرية – أمنية منطبعة في شخصيته التي تميل لقلة الكلام والسرية وعدم التفاعل مع وسائل الإعلام أو الظهور العلني الكثير، وهو أمر يتنافى مع النظام السياسي التركي الحالي الذي يتطلب من رئيس الوزراء أن يكون ذا كاريزما شخصية عالية ومتمكناً من مهارات التواصل الإعلامي والاتصال الجماهيري، إضافة إلى كونه بعيداً نوعاً ما عن مراكز القوى داخل الحزب وقليل التفاعل مع كوادره، اللهم إلا أنه يحظى بدعم اردوغان اللامحدود، والذي ما زال صاحب كلمة نافذة داخل الحزب.
هكذا، لا يصبح لاستقالة الرجل معنى ووجاهة إلا في سياق واحد: أن يكون رئيس الوزراء المقبل في ظل نظام سياسي جديد، يبرز فيه الدور “الإجرائي” او الإداري لرئيس الوزراء على حساب الدور “السياسي” أو الإعلامي. إذاً، يمكن فهم الخطوة على أنها مرحلة جديدة متقدمة على طريق ترسيخ أسس النظام الرئاسي الذي يريده اردوغان ومن خلفه العدالة والتنمية في تركيا، عبر دستور جديد، أو عبر استفتاء شعبي إن تعذر ذلك، أو عبر إجراءات الأمر الواقع والتفاهم الضمني بين مؤسستي الرئاسة والحكومة في نهاية المطاف.