كما توقعنا، فقد انشغلت وسائل الإعلام التركية ودوائر صنع القرار في أنقرة على مدى أسبوع كامل بقرار رئيس جهاز الاستخبارات التركية حاقان فيدانه الاستقالة من منصبه تمهيداً لترشحه للانتخابات البرلمانية القادمة، وكان أحد أهم سبب هذا الاهتمام هو التصريح العلني لرئيس الجمهورية بأنه لا يؤيد قرار الأخير بالاستقالة.
حمل البعض هذا التصريح على معنى الخلاف بين الرئاسة ورئاسة الحكومة، بينما اعتبرها البعض الآخر مناورة من اردوغان ليخفف الضغط عن نفسه، في مواجهة احتجاجات المعارضة واتهامها له بالتحكم بكل قرارت الحزب الحاكم والحكومة حتى بعد وصوله لرئاسة الجمهورية، لكن الأكيد في المشهد الحالي أنه جديد جداً على تركيا من عدة زوايا.
كنتُ قد ذكرت في مقالي الأسبوع الفائت أن منصب الرجل الحساس والملفات التي كان يتابعها بشكل مباشر (خاصة عملية السلام مع الأكراد ومكافحة الكيان الموازي) تطرح عدداً من علامات الاستفهام حول قراره ومدى صوابيته، كما قد تفرض أسئلة عن مدى التوافق بين مؤسستي الرئاسة ورئاسة الجمهورية إزاء الأمر. سيما وأن المتوقع للرجل أن لا يكتفي بالمقعد البرلماني، بل من الواضح أنه سيتولى إحدى الوزارات المهمة، الخارجية وفق معظم التوقعات. لكن تصريح اردوغان يطرح أمامنا الآن عدداً من السيناريوهات، ربما من المفيد أن نستبقها أولاً بموجز سريع عن سيرة فيدان الذاتية.
فقد تخرج حاقان فيدان عام 1986 من الأكاديمية الحربية، ثم حاز على بكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة ميريلاند، قبل أن يدرس الماجستير ثم الدكتوراة (عام 2006) في إحدى أرقى الجامعات التركية (بيلكنت)، حيث كان بحثه فيها عن “الدبلوماسية في عصر المعلومات: استخدام تكنولوجيا المعلومات في التحقق من المعاهدات”.
وبعد هذه المسيرة العلمية بدأ حياته العملية كمستشار اقتصادي وسياسي في سفارة بلاده في أستراليا، كما عمل في معهد بحوث نزع الأسلحة التابع للأمم المتحدة، وفي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومركز المعلومات والتدريب وأبحاث التحقق في انكلترا. في عام 2003، أسندت إليه رئاسة وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) التابعة لوزارة الخارجية، ذراع تركيا الخارجية في مجالي الاقتصاد والتنمية، كما شغل منصب مستشار وزير الخارجية داود أوغلو في حينها، ثم عين عام 2007 مستشاراً لرئيس الوزراء (اردوغان) لشؤون الأمن الدولي والسياسة الخارجية، قبل أن يعينه اردوغان نائباً لرئيس جهاز الاستخبارات ثم رئيساً له عام 2010، ليصبح أصغر رئيس له في تاريخ الجمهورية التركية عن عمر 42 عاماً.
هذه السيرة العلمية والعملية الحافلة للرجل والمناصب التي شغلها، والقفزة التي حققها لوكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) في عهده، وعشرات الدول التي زارها وتعامل معها، إضافة إلى إنجازاته الواضحة في مأسسة جهاز الاستخبارات وملف السلام الداخلي ومكافحة الكيان الموازي، كل ذلك يضعنا أمام حقيقتين مهمتين بخصوصه: الأولى أنه غير بعيد أو غريب عن العمل الدبلوماسي والسياسة الخارجية (وهو ما يرجح التكهنات بمنصبه القادم)، والثانية أنه صاحب إنجازات في مختلف المواقع التي أوكلت له، كما ذكر ذلك داود أوغلو نفسه حين وصفه بالشجاعة والإخلاص معتبراً أنه سيستمر بنفس الصفات والأداء وقادر على تولي “أي منصب” في الدولة التركية.
والحال كذلك، فما السيناريوهات التي يمكن لها تفسير الحدث بكل هذه الأبعاد؟
يبدو أولاً أن قرار الاستقالة وقبول رئيس الوزراء له يعكس ثقة بالمستوى الذي وصل له جهاز الاستخبارات بحيث لم يعد بقاء فيدان بنفسه على رأسه ضرورة قصوى كما كان في السابق. وقد يبدو في طيات القرار أيضاً أن الأخير قد مل من العمل لسنوات طويلة في نفس المكان و/أو يطمح لمنصب سياسي يكمل من خلاله مسيرته المستقبلية. لكن ماذا عن اعتراض اردوغان العلني؟ وهل ثمة خلاف كبير بين اردوغان وداود أوغلو؟ وهل يمكن فعلاً في المرحلة الحالية اتخاذ قرار بهذه الحساسية دون موافقة اردوغان عليها؟
وفق السيناريو الأول الممكن، يقوم اردوغان بمناورة سياسية، مدعياً عدم موافقته على الخطوة بينما هو من أرادها. لكن ثمة عوامل عدة تقلل من حظوظ هذا السيناريو، منها السياق الذي صرح من خلاله عن رأيه، وتصريحات داود أوغلو اللاحقة على ذلك، إضافة لرفضه السابق لتولي فيدان وزارة الخارجية لدى تشكيل داود أوغلو للحكومة في آب/أغسطس الفائت.
السيناريو الثاني المحتمل أن يكون هناك خلاف أو صراع بين اردوغان وداود أوغلو، وهو أيضاً احتمال ضعيف نظراً لسيرة وتاريخ الرجلين وعملهما المشترك، حيث يبدو من المبكر أن يظهر على السطح خلاف بهذا المستوى (ليس قبل الانتخابات القادمة)، فضلاً عن أن سيناريو الخلاف يقوي احتمالية أن يريد اردوغانُ فيدانَ في مواجهة داود أوغلو وليس العكس.
السيناريو الثالث أن يكون القرار فعلاً نابعاً من رغبة فيدان نفسه وشعور داود أوغلو بحاجته له في ملف السياسة الخارجية تحديداً حيث عملا معاً في السابق وخبر الاولُ الأخيرَ فيها جيداً. وهنا يكون اعتراض اردوغان من باب الحرص على جهاز الاستخبارات وعلى فيدان نفسه (وصفه بأنه مستودع أسراره وأسرار الدولة التركية) وعلى عدم ضياع منجزات السنوات السابقة في ظل عدم حسم ملف الكيان الموازي نهائياً. ولئن صدق هذا السيناريو فيجب النظر إلى إيجابية كبيرة متضمنة بين طياته، وهي اكتفاء اردوغان بإبداء الرأي والمشورة، واتخاذ رئيس الوزراء القرار بنفسه ووفق قناعاته، وهو ما يدحض ادعاءات المعارضة (وسيرة اردوغان وشخصيته) بسيطرة اردوغان حتى الآن على آليات اتخاذ القرار في الحزب والحكومة، كما يعطي أملاً باستمرارية التجربة التركية بحيوية وأفكار داود أوغلو وعدم تقوقعها وحبسها في ظلال اردوغان، رغم ما قدم على مدى 12 عاماً، وهذه بالتأكيد علامة ثقة وحيوية وعلاقات مؤسسية مبشرة.
يبقى أن نشير إلى أن القرار يعتبر بكل المقاييس مخاطرة كبيرة، أولاً لجهة سؤال خلافة الرجل في جهاز الاستخبارات في ظل الظروف الدقيقة الحالية، وثانياً لجهة سؤال نجاحه في المنصب الجديد. فحتى وإن حاز الرجل على العلوم النظرية وخبرة عملية في بعض الملفات الخارجية، لكن قد لا يعني ذلك بالضرورة أن يستنسخ نجاحه الحالي في جهاز الاستخبارات في وزارة الخارجية مستقبلاً، بالنظر إلى فارق المهارات المطلوبة في كل من المنصبين.
وبغض النظر عن مدى وجاهة اتهامات المعارضة للحزب الحاكم بتسييس جهاز الاستخبارات في ظل تجارب سابقة لاثنين من رؤساء الجهاز توليا منصب سفير بعد الاستقالة، إلا أن السؤال الأوجه هنا هو عن مدى نجاح فيدان في منصبه الجديد – في حال صدقت التوقعات – في وزارة الخارجية مع استمراره بمتابعة ملف عملية السلام مع الأكراد، من خلال تكليف خاص من رئيس الوزراء له بذلك، وهو ما أجازه قانون “إنهاء الإرهاب وتمتين الوحدة المجتمعية” الذي أقره البرلمان التركي قبل أشهر.