إشارات أمريكية لا تطمئن تركيا
المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
يبدو أن قمة سوتشي قد أزعجت الولايات المتحدة الأمريكية، إذ لم يمر عليها يومان حتى بادر ترمب للاتصال على اردوغان للحديث حول “المشاكل التي ورثها في المنطقة” على حد تعبيره. ليس مريحاً بالتأكيد بالنسبة لواشنطن أن يكون ثمة حل أو حتى مسار في سوريا يتجنبها (رغم أنها في النهاية تجمعها تفاهمات مع موسكو) ولا أن ترى عضو حلف الناتو وشريكها الاستراتيجي منذ 1995 أقرب لموسكو منها إليها، تحديداً لأن أهم أسباب هذا المتغير هي السياسات الأمريكية المزعجة لأنقرة وخصوصاً فيما يتعلق بالملف الكردي في سوريا.
بعد الاتصال مباشرة قال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو إن ترمب وعد بوقف تسليح المنظمات الكردية المسلحة في سوريا. تصريح جمعه البعض مع الموقف الامريكي السلبي من استفتاء كردستان العراق، ليخلص إلى نتيجة مفادها أن واشنطن في طريقها “لبيع” أكراد سوريا كما فعلت مع نظرائهم في العراق، بعد استخدامهم في مواجهة داعش وسعياً لكسب تركيا واحتوائها بعيداً عن روسيا، وهي الفرضية التي لا تبدو منطقية حتى الآن على الأقل.
فموقف الولايات المتحدة من الاستفتاء لم يكن له علاقة بكسب ود تركيا، بل لم تكن واشنطن ضد الاستفتاء ومن ثم الانفصال أو الاستقلال بقدر ما كانت تتحفظ على التوقيت الذي اعتبرته يؤثر سلباً على معركتها مع “الإرهاب”. وفي المحصلة، حققت أنقرة هدفها الرئيس لكنها ليست سعيدة بالتأكيد بخسائرها التكتيكية بسبب التطورات اللاحقة، فضلاً عن أنها لا تأمن موقف الجانب الأمريكي على المدى البعيد.
وأما دعم حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري) وأذرعه العسكرية بمختلف أنواع الأسلحة بما فيها النوعية والثقيلة التي تعتبرها تركيا تهديداً لأمنها القومي، وبما جعل منها جيشاً نظامياً مصغراً، فلا يبدو أن تغيراً ذا بال قد طرأ عليه. فقد صدرت تصريحات عدة من البنتاغون وعلى لسان الناطقة باسم البيت الأبيض أكدت على استمرار هذا الدعم، وإن تحدث بعضها عن “إمكانية” تخفيضه وضبطه وبعضها الآخر عن النية باستعادته مستقبلاً.
وهكذا، يبدو الأمر مرتبطاً بقرب هزيمة داعش عسكرياً وبالتالي إعادة الهيكلة والتموضع والانتشار، ومحاولة كبح جماح التعاون التركي – الروسي في سوريا تحديداً، وفِي جزء منه بالتباينات في وجهات النظر والتوجه بين ترمب ومختلف المؤسسات الأمريكية.
وإلا، فلا يبدو أن شيئاً كثيراً قد تغير في الرؤية الأمريكية للقضية السورية وعموم المنطقة، ولا بخصوص العلاقات مع تركيا، كيف لا وثمة عشر قواعد عسكرية أمريكية على الأقل في الشمال السوري تحمي مناطق سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي التي تكاد تصل لثلث الأراضي السورية (فيما يمثل الكرد حوال ٪٨،٥ فقط من الشعب السوري مثلاً)، ما يعني دفعاً أمريكياً واضحاً باتجاه سيناريوهات التقسيم أو الفدرلة، والتزاماً واضحاً بالتحالف مع الحزب وأذرعه العسكرية على المديين القريب والمتوسط، وهي المنظمات المصنفة على قوائم الإرهاب التركية.
تبدو مشكلة أنقرة في مواجهة المشروع السياسي لتكوين دويلة على حدودها الجنوبية أكثر تعقيداً منطلق. إذ لا تدعم روسيا – الموازن للولايات المتحدة والمتعاونة مع تركيا في سوريا – أيضاً وجهة النظر التركية، فهي لا تصنف حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية (بخلاف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) وتتعامل معه ومع حزب الاتحاد الديمقراطي الذي افتتحت له مكتب تمثيل في موسكو، وما زالت تصر على إشراك الأخير في محادثات أستانا ومؤتمر “الحوار الوطني السوري” المزمع عقده في سوتشي. ولكن، ورغم كل ذلك، تبدو أنقرة قادرة – حالياً على الأقل – على ضبط التعامل الروسي مع الملف الكردي وفرض رؤيتها و”الفيتو” على بعض التوجهات، عكس الإدارة الأمريكية التي تبدو غير مكترثة أبداً بهواجس شريكها الاستراتيجي ومتطلبات أمنه القومي.
وبالتالي، لا يكفي الموقف الأمريكي من استفتاء كردستان العراق لطمأنة أنقرة، بل لربما كان نابعاً في أحد أسبابه من كون البارزاني حليفاً “سابقاً” لتركيا، ومن جهة أخرى يبقى الدعم والتسليح لحزب الاتحاد قائماً في سوريا.
ناهيك عن مماطلة واشنطن في ملف فتح الله كولن والشكوك الكبيرة التي تراود أنقرة إزاء قضية “رضا صراف” رجل الأعمال الإيراني الحامل للجنسية التركية في الولايات المتحدة، والتي يبدو أنها ستكون عنصر ضغط شديد سياسياً واقتصادياً عليها، في ظل اتهام وزير سابق واحتمال توجيه الاتهام لقيادات تركية أخرى فيها، وهو ما يحتاج بحثاً أعمق مما تسمح به مساحة هذا المقال.