حسابات تركيا المعقدة بخصوص إدلب
المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
منذ بدء الثورة السورية في 2011 وعلى مدى السنوات الست السابقة، تطور الموقف التركي منها وتبدل حسب ثلاثة معطيات، المشهد الميداني في سوريا والموقف الدولي منها والوضع الداخلي في تركيا. وقد تغير الموقف الدولي من الأحداث في سوريا وتقييمه لها، من تحرك شعبي إلى ثورة إلى ثورة مسلحة إلى حرب أهلية إلى حرب على الإرهاب وضرورة البحث في مستقبل سوريا.
وبناء على هذه المعطيات وغيرها من العوامل فقد انتقلت المقاربة التركية للقضية السورية من الدعوة للإصلاح في أشهر الثورة الأولى، إلى المطالبة برحيل الأسد بعد انتهاجه الحل الأمني وتبني المعارضة تماماً، إلى القبول بالحل السياسي على قاعدة رحيل الأسد، إلى الرضى ببقائه في المرحلة الانتقالية، إلى عملية درع الفرات، إلى مسار أستانة.
مؤخراً، ولأسباب عدة، يصعب القول إن أنقرة تقارب القضية السورية كحزمة واحدة، وإنما هي أقرب لملفات شبه منفصلة لكل منها ظروفه وعوامله وفواعله ووزنه وتأثيراته، فهناك عفرين وهناك منبج وهناك إدلب، ولكن كل ذلك وفق أولوية واضحة لمواجهة المشروع السياسي الكردي في شمال سوريا وعلى قاعدة الحل السياسي التفاوضي ضمن مسار أستانة واتفاق مناطق خفض التصعيد.
فيما يتعلق بإدلب، ثمة زوايا نظر وتقدير عدة لتركيا بخصوصها:
فهي أولاً منطقة تسيطر عليها قوات “المعارضة” السورية من حيث المبدأ.
وهي ثانياً محافظة تضم حوالي مليوني إنسان وملاصقة للحدود التركية.
وهي ثالثاً محظ أنظار النظام والمنظمات الكردية المدعومة أمريكياً.
وهي رابعاً آخر المناطق المهمة التي تنتظر تطبيق اتفاق مناطق خفض التصعيد.
هذه المعطيات تعقّد الحسابات التركية بخصوص إدلب إلى حد بعيد، سيما في ظل الإشارات الأمريكية غير المطمئنة. إذ صرح المبعوث الأمريكي للتحالف الدولي بريت ماكغورك مؤخراً بأن “القاعدة” تسيطر على إدلب وأن تركيا ساهمت في ذلك، ما أعطى إيحاءً بأن الولايات المتحدة قد ترتب لعملية عسكرية في إدلب بعد الرقة وبنفس الطريقة، أي عبر المنظمات الكردية وهو مثار قلق كبير بالنسبة لتركيا.
أكثر من ذلك، يشير التصريح إلى اتهام ضمني لتركيا بدعم “الإرهاب” أو على الأقل التساهل معه، رغم أن واشنطن عادت عنه بطريقة خجولة لاحقاً بعد احتجاج أنقرة، وبالتالي قد تحتاج الأخيرة لعمل ما في مواجهة “هيئة تحرير الشام” التي تسيطر على إدلب لتبرئة نفسها، وهو أمر له محذوراته الكثيرة بطبيعة الحال.
من جهة أخرى، من الواضح أن تأخير/تأجيل تركيا لعمليتها المفترضة في عفرين ضد حزب الاتحاد الديمقراطي مرده لعدم الاتفاق مع روسيا عليها أو على على بعض تفاصيلها، ومن هنا ترددت أنباء بأن موسكو طلبت من أنقرة تأجيلها إلى ما بعد إنهاء ملف إدلب في إطار اتفاق خفض التصعيد.
بناء على كل ذلك، تبدو أنقرة أمام ثلاثة خيارات رئيسة فيما يتعلق بإدلب، لكل منها تحدياته وعقباته ونتائجه:
أولاً، تجنيب المنطقة عملية عسكرية واسعة كمصلحة تركية خالصة وخيار أنقرة الأفضل. فهذا الخيار يحمي المدينة وسكانها من مصير مشابه للموصل أو الرقة مثلاً، ويجنب تركيا موجة لجوء كبيرة، ويبعد المنطقة عن سيطرة النظام أو المنظمات الكردية.
يستوجب هذا الخيار سحب ذريعة “مكافحة الإرهاب” وبالتالي انسحاب هيئة تحرير الشام من الصورة تماماً (وقد سرب أن أنقرة طلبت حلها) وتحويل السيطرة على المحافظة إلى سلطة إدارية مدنية شرطية تشرف عليها تركيا – أو وفق آلية متفق عليها – وفق نموذج قريب من منطقة درع الفرات.
بيد أن هذا الخيار يصطدم بشكل مباشر بقرار الهيئة ومصيرها ومصير أفرادها مستقبلاً، فضلاً عن مدى اقتناع الولايات المتحدة وروسيا بنجاعته وانتفاء ذريعة التدخل وهو أمر يتعلق بالقرار المسبق أكثر من الاقتناع الموضوعي ربما.
ثانياً، خيار تدخل تركيا بنفسها في إدلب، دفعاً لتهمة دعم “الإرهاب” واستباقاً لأي تدخل كردي – أمريكي أو أسدي – روسي وإبقاءً للمنطقة تحت سيطرة المعارضة القريبة من تركيا قبيل أي حل تفاوضي ستكون مساحات السيطرة الميدانية إحدى أهم نقاط القوة ومحددات الحل فيه.
بيد أن هذا الخيار يبدو مراً وأمامه تحديات الكثافة السكانية ومواجهة الهيئة واحتمال ارتداد ذلك على داخل تركيا كعمليات انتقامية، فضلاً عن الصورة الذهنية التي يمكن أن تتشكل بأن أنقرة تتدخل في “مناطق المعارضة” بقرار أمريكي أو روسي.
ثالثاً، خيار مقايضة إدلب بعفرين، وهو الخيار الذي قد تفعّله أنقرة – وإن كانت لا تفضله ربما – في حال اتضح لديها إصرار الإدارة الأمريكية على حسم الأوضاع في إدلب وعدم قدرتها هي على منع ذلك أو تنفيذه بيدها، وبالتالي يكون السماح لها بعملية عسكرية في عفرين ثمناً للعملية في إدلب، وهو خيار قد لا يحتاج لكثير تفصيل في نتائجه الكارثية.
في المحصلة، ما زالت خيارات تركيا – ومنذ فترة – كثيرة في الظاهر ولكن محدودة في الحقيقة، ومرتبطة إلى حد بعيد بمواقف الدول الكبرى وليس القرار التركي الذاتي فقط، إلا أن تصل الأمور في ملف ما لمرحلة تهدد بشكل آنيٍّ وحاد أمنها القومي فتضطر للتدخل واتخاذ خيارها بمعزل عن أي تفاهمات أو تنسيق مع الأطراف الأخرى، وهو خيار لا ترجو أنقرة أن تضطر إليه وإلى تحمل تبعاته.